فنزويلا بين الظل والعلن: هل تُعيد واشنطن سيناريو العراق؟

كتبت: هدير البحيري
وسط تصاعد التوترات في أمريكا اللاتينية، صادق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على خطط لوكالة المخابرات المركزية لتنفيذ عمليات سرية داخل العاصمة الفنزويلية كاراكاس، في خطوة تهدف لتعزيز النفوذ الأمريكي في المنطقة.
ولم تقتصر التحركات على الجانب الاستخباراتي، إذ أعاد ترامب أيضًا فتح قنوات اتصال سرية مع حكومة الرئيس نيكولاس مادورو، بحسب صحيفة “نيويورك تايمز”، في مؤشر واضح على اعتماد البيت الأبيض استراتيجية مزدوجة تجمع بين الضغط العسكري والحوار الدبلوماسي.
وفي إطار ما تصفه الولايات المتحدة بحملة لمكافحة تهريب المخدرات، عززت واشنطن انتشارها العسكري في أمريكا اللاتينية، وهو حشد أثار مخاوف من احتمال اندلاع نزاع واسع في المنطقة.
وشهدت الأسابيع الأخيرة تنفيذ القوات الأمريكية نحو 20 ضربة في البحر الكاريبي والمحيط الهادئ ضد سفن تتهمها بنقل المخدرات، ما أسفر عن مقتل ما لا يقل عن 83 شخصًا.
ورغم إبقائه خيار العمل العسكري مطروحًا، أبدى ترامب استعدادًا لفتح مسار دبلوماسي مع مادورو، مؤكدًا أنه “قد يتحدث” معه، لكنه شدد في الوقت نفسه على أنه لا يستبعد أي خيار داخل الأراضي الفنزويلية.
في المقابل، اتهم مادورو واشنطن باستخدام مكافحة المخدرات كغطاء للضغط عليه وإبعاده عن السلطة، معلنًا انفتاحه على إجراء حوار مباشر مع ترامب في ظل تصاعد التوتر العسكري في محيط بلاده.
بالتزامن مع التصعيد السياسي، أرسلت الولايات المتحدة حاملة الطائرات يو إس إس جيرالد آر. فورد ومجموعتها القتالية إلى البحر الكاريبي، في أكبر استعراض للقوة البحرية في المنطقة منذ سنوات.
كما أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية تنفيذ ضربات جوية وبحرية جديدة ضد سفن قالت إنها متورطة في تهريب المخدرات عبر البحر الكاريبي والمحيط الهادئ.
هل تعيد واشنطن سيناريو غزو العراق؟
وفي سياق متصل، تشير تقارير أمريكية إلى أن التحركات العسكرية الأخيرة قرب فنزويلا تحمل ملامح تصعيدية تتجاوز ما تعلنه واشنطن رسميًا.
فقد حذر الصحفي الاستقصائي الأمريكي، ألين ستيفنز، في تقرير نشره موقع “ذا إنترسبت”، من أن الولايات المتحدة تُعيد إنتاج الخطاب نفسه الذي سبق غزو العراق عام 2003.
وأوضح أن ذلك يتم عبر حشد عسكري واسع في منطقة الكاريبي واستخدام مصطلح “إرهاب المخدرات” لربط حكومة مادورو بتهديدات عابرة للحدود.
وأشار ستيفنز إلى أن وصف فنزويلا بأنها خطر إرهابي يفتح الباب قانونيًا لاستخدام القوة دون تفويض تشريعي، وهو ما يدعمه الإعلام بترويج فكرة “التدخل المحدود”.
وحذر من أن استمرار هذه السردية قد يؤدي تدريجيًا إلى صراع غير محسوب العواقب، مؤكدًا أن الملف الفنزويلي أصبح جزءًا من استراتيجية أمريكية أوسع في نصف الكرة الغربي.
نفط فنزويلا.. سبب الضغط الأمريكي والسيطرة الاستراتيجية
وفي هذا السياق، قال رئيس وحدة الدراسات الأوروبية والاستراتيجية بمركز العرب، والباحث في العلاقات الدولية، الدكتور هاني الجمل، في حديث خاص لـ”داي نيوز”، إن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يتبنى دائمًا سياسة الضغط الأقصى لتحقيق أهدافه، خاصة في ما يتعلق بملف الطاقة.
وأوضح الجمل أن فنزويلا غنية بالنفط وترتبط بقضايا حساسة مثل الهجرة غير النظامية، مما جعلها هدفًا مباشرًا للضغوط الأمريكية، التي لم تستبعد التدخل العسكري لتغيير النظام السياسي هناك.
وأضاف الجمل أن ترامب يشكك بشكل مستمر في شرعية انتقال السلطة من هوجو تشافيز إلى نيكولاس مادورو، معتبرًا أن هذا الانتقال جرى بصورة غير قانونية.
وأشار إلى أن تراجع القدرات العسكرية لمادورو وزيادة الحصة الأمريكية من الطاقة الفنزويلية جاء ضمن الأهداف التي سعت إليها واشنطن، ما سمح لاحقًا بتهدئة نبرة التصعيد في مقابل فتح قنوات للتواصل.
وأكد الجمل أن التحركات الأمريكية لا تُفهم في سياق فنزويلا فقط، بل في إطار أوسع يتعلق بـأمريكا اللاتينية ككل، خاصة في ظل مخاوف واشنطن من تطورات السياسة الإقليمية، بما في ذلك المواقف من القضية الفلسطينية والتواجد الإسرائيلي في بعض دول المنطقة.
وكشف أن جزءًا من الاستراتيجية الأمريكية يقوم على إعادة تعريف دور “البنتاجون” من وزارة دفاع إلى وزارة حرب، بما يعكس نزعة نحو توسيع استخدام القوة خارج الحدود.
وأوضح أن فنزويلا ليست الدولة الوحيدة التي تراقبها الولايات المتحدة، فهناك ملفات أكثر حساسية، مثل إيران واحتمالات التصعيد معها، وكذلك التوترات المرتبطة بتايوان رغم محاولات التهدئة بين واشنطن وبكين، بالإضافة إلى إشارات أمريكية موجهة إلى كوريا الشمالية والدول المتحالفة مع روسيا.
وأشار الجمل إلى أن احتمالات وقوع تصعيد عسكري في فنزويلا لا تزال متساوية، بنسبة 50% لكل اتجاه، في ظل حالة من المد والجزر التي تميز سياسات الضغط القصوى. إلا أن الولايات المتحدة -وفق تقديره- لا تميل في الوقت الراهن إلى تدخل عسكري مباشر.
وأوضح أن واشنطن تعتمد على الضغوط السياسية والاقتصادية لتحقيق أهدافها، وعلى رأسها السيطرة على الموارد، وإدارة ملف الهجرة، وتعزيز حضور الشركات متعددة الجنسيات داخل السوق الأمريكية، إلى جانب محاولات تعديل موازين التجارة مع أوروبا وأمريكا اللاتينية.
وفي ما يتعلق بالدور الروسي، قال الجمل إن موسكو لن تتدخل عسكريًا للدفاع عن مادورو، متوقعًا تكرار السيناريو نفسه الذي حدث خلال الحرب القصيرة بين إيران وإسرائيل.
وأشار إلى أن ما شهدته قمة “ألاسكا” بين واشنطن وموسكو يُظهر أن إعادة هندسة المشهد الدولي ما زالت مستمرة، خاصة مع الضغوط الأمريكية على روسيا في أوكرانيا مقابل التوسع الأمريكي في الشرق الأوسط، بما في ذلك القوة المنشأة في قطاع غزة.
ويرى الجمل أن دعم روسيا لفنزويلا سيكون -إن وُجد- خافتًا وغير مباشر، لأن أي مواجهة بين القوى الكبرى ستكون كارثية وغير مطروحة في اللحظة الراهنة.
وفي ما يتعلق بالسيناريوهات المحتملة للأزمة، قال الجمل إن المشهد قد يتجه إلى ثلاثة مسارات رئيسية؛ أولها تدخل وسطاء من أمريكا اللاتينية للتهدئة، وهو سيناريو مرجح في ظل حساسية الوضع الإقليمي.
أما المسار الثاني فيتمثل في اتفاقات سرية تحت الطاولة تتيح لواشنطن تحقيق أهدافها دون اللجوء إلى القوة، وهو السيناريو الأقرب للواقع حاليًا. فيما يبقى التدخل العسكري الأمريكي احتمالًا قائمًا، لكنه ليس وشيكًا رغم التصعيد الإعلامي المحيط بالأزمة.
واختتم الجمل حديثه بالتأكيد على أن فنزويلا -بوصفها دولة شمولية- لا تمتلك القدرة على تعبئة شعبية واسعة ضد أي تحرك أمريكي، بينما تمثل العصابات والجماعات المسلحة وشبكات المخدرات نقطة ضعف كبيرة، خاصة في ظل الاتهامات الأمريكية بارتباطها بالرئيس مادورو.
وقال إن هذه الاتهامات قد تُستخدم كذريعة مستقبلية لعمل عسكري، مستبعدًا حدوث ذلك في المدى القريب.


