الـ27 ساعة الدامية: اقتحام قصر العدل في كولومبيا وكارثة الثوار

كانت العاصمة الكولومبية بوغوتا تعيش يوماً روتينياً، حيث يتدفق السكان إلى شوارعهم دون الشعور بالتوتر السياسي الذي كان يخيم على البلاد.
في وسط المدينة، يقع قصر العدل كرمز للعدالة والسلطة، حيث كان القضاة والمحامون والموظفون يبدؤون عملهم اليومي بهدوء، غير مدركين للعاصفة الوشيكة.
مع اقتراب الساعة 11:30 صباحاً، تحولت أجواء المرآب الرئيسي للقصر إلى فوضى كاملة. لم تكن الشاحنتين اللتين اقتحمتا المكان تحملان دورية شرطة عادية، بل كانت مليئة بأعضاء حركة “19 أبريل” (M-19)، الذين كانوا يرتدون زي الشرطة للتمويه. أطلقوا صيحة “تحيا كولومبيا!” ليعلنوا عن بداية عملية جريئة ومأساوية، تعد من أبرز الأحداث في تاريخ أمريكا اللاتينية.
في غضون دقائق، أُخضع نحو 300 شخص، بما في ذلك رئيس المحكمة العليا ألفونسو رييس إيشانديا و24 قاضياً آخرين، كرهائن في يد مجموعة لا تتجاوز 35 مقاتلاً. هكذا انطلقت مواجهة دامت 27 ساعة، لا تزال آثارها الجسيمة محفورة في ذاكرة الكولومبيين.
لاستيعاب أحداث ذلك اليوم، يجب الرجوع إلى جذور الأزمة في 19 أبريل 1970. في ذلك التاريخ، شعر الكثيرون بأن الديمقراطية الكولومبية قد خُدعت من خلال صفقة بين القيادات العليا والأحزاب التقليدية، التي ضمنت فوز المحافظ ميسايل باسترانا بوريرو في الانتخابات الرئاسية.
هذا الإحباط أدى إلى تأسيس حركة “19 أبريل” كذراع مسلح لحزب التحالف الشعبي الوطني “أنابو”، مقتنعة بأن الاستخدام العنيف للسلاح هو الطريق الوحيد للقضاء على “الطفيليات”، أي النخبة الأوليغارشية التي تسيطر على الدولة.
كانت الحركة تتميز بحماسة يائسة وأساليب غير تقليدية. لم تكن عملياتها سرية، بل كانت مصممة لتكون عرضاً مسرحياً يهدف إلى كسب تأييد الشعب. سواء باختطاف شخصيات عامة أو السيطرة على مدن صغيرة كما حدث في فلورنسيا عاصمة مقاطعة في مارس 1984، كانوا يتركون دائماً بيانات توضح أهدافهم. سعوا ليظهروا كأبطال شعبيين يحاربون فساد النظام السياسي.
مع اقتراب عام 1984، بدا أن فرص السلام تلوح في الأفق. دخلت الحركة في حوار مع حكومة الرئيس بيليساريو بيتانكورت، مما أسفر عن اتفاق وقف إطلاق النار، ووعود حكومية بعفو عام وتحويل المجموعة إلى حزب سياسي قانوني.
لكن هذا الهدوء لم يدم طويلاً. رفضت الدوائر العسكرية والنخب التقليدية أي تنازلات، وبينما كانت الحكومة تتحدث عن السلام، كان الجيش ومجموعات الموت شبه العسكرية تشارك في “حرب قذرة” ضد أعضاء الحركة الحقيقيين والمشتبه بهم.
تم اغتيال قادة الحركة تباعاً في شوارع بوغوتا، مما جعل “M-19” تشعر بالخنق، وتتهم الحكومة إما بالعجز أو التواطؤ في الانتهاكات.
في هذه الأجواء المتوترة، تبلورت في عقول قادة الحركة فكرة خطيرة: عملية كبرى تجذب انتباه العالم إلى خيانة الحكومة للاتفاقيات. اختاروا قصر العدل كهدف رئيسي، كونه مركز النظام القضائي.
تم التخطيط للعملية بدقة متناهية، حيث دخل الزعيم أندريس المراليس المبنى متنكراً بزي محامٍ، مدعوماً بمقاتلين آخرين الذين احتلوا نقاطاً حيوية قبل ساعات.
عندما دمرت الشاحنتان المرآب، اندلعت العملية فوراً. سيطر المقاتلون على المبنى، أغلقوا الطرق الداخلية باستخدام الأثاث الثقيل، ونصبوا أسلحتهم الآلية على الدرج.
كانوا يأملون في سيناريو مشابه لاقتحامهم سفارة الدومينيكان عام 1980: مفاوضات طويلة، ضغط إعلامي، ثم خروج آمن إلى المنفى. لكنهم أخطأوا في تقدير رد الخصوم.
لم تكن القيادة العسكرية، بقيادة الجنرال جيسوس أرماندو أرياس كابراليس، مستعدة للحوار. رأت في الأزمة فرصة للانتقام من الحركة التي أذلتها لسنوات، وقررت عدم أسر أي شخص حياً. من داخل المبنى المحاصر، حاول الرهائن القضاة التواصل مع الرئيس بيتانكورت، متوسلين إليه حماية الأرواح وفتح قنوات تفاوض، لكن الرد كان صمتاً مطبقاً.
في خطوة يائسة، أطلق المتمردون سراح أحد الرهائن برسالة تفاوضية، لكن الرد الرسمي كان أمراً بالاستسلام الفوري دون شروط.
في مساء اليوم التالي، 7 نوفمبر، تحول القصر إلى جهنم حقيقي. اقتحمت المركبات المدرعة المدخل الرئيسي، بينما تسلق الجنود السقف للهجوم من الأعلى. أصبح المبنى ساحة حرب، حيث استخدم الجيش المدفعية الثقيلة والصواريخ دون مراعاة لسلامة الرهائن داخل الغرف.
اندلعت حرائق هائلة في المكتبة القضائية، التي كانت تضم آلاف الوثائق التاريخية، محولة إرثاً قضائياً كاملاً إلى رماد.
عندما هدأت النيران، كشف المشهد عن فظائع لا تُصدق. القصر تحول إلى أنقاض محترقة، مع مقتل 33 مقاتلاً من “M-19” بما فيهم قادتهم، و11 جندياً، و71 مدنياً بريئاً من قضاة وموظفين.
لم تنتهِ المأساة هناك؛ فاختفت جثث بعض الجنود والمدنيين إلى الأبد. تشير التحقيقات إلى أن الجيش اختطف ناجين شوهدوا يغادرون المبنى، ثم أعدمهم خارج إطار القانون بعد تعذيبهم لاستخراج معلومات.
اعترفت قيادة “M-19” لاحقاً بأن هذا الاقتحام كان “أكبر خطأ عسكري وسياسي” ارتكبته، مما أضعفها بشكل كبير حتى وقعت اتفاق سلام مع الحكومة عام 1990، وتحولت إلى حزب سياسي مشروع. ومع ذلك، ظلت العدالة ناقصة للضحايا.
رغم إدانة الجنرال أرياس كابراليس وآخرين في قضايا الاختفاء القسري، إلا أن الأحكام خُففت وأُفرج عن المذنبين لاحقاً، في إهانة لعائلات الضحايا، وتذكير مؤلم بأن بعض رموز العدالة تبقى مليئة بأشباح الماضي، حتى لو أُعيد بناؤها.



