مقالات

الجيل الجديد والثورة الرقمية: دور مواقع التواصل الاجتماعي في تشكيل المشهد السياسي الإيراني

د. ريم أبو الخير إعلامية ومترجمة متخصصة في الشأن الإيراني والأفغاني

يعد المشهد السياسي في إيران ساحة صراع معقدة، لا تدور رحاها في الشوارع وصناديق الاقتراع فقط، بل انتقل إلى الفضاء الإلكتروني.

فقد شهدت إيران خلال العقد الأخير تغيرات كبيرة في ميدان التحول الرقمي، خاصة مع انخراط جيل الشباب المعروف بـ (Gen Z) وما بعده، بقوة في استخدام مواقع التواصل الاجتماعي، فتحولت هذه المواقع إلى محرك أساسي لتشكيل الوعي، وتوجيه الرأي العام، ومساحة حيوية لتداول المعلومات، ومنصة للمطالبة بالحقوق، وحتى تنظيم الحراك والتعبير السياسي، ومقاومة الرقابة المفروضة والقمع، على الرغم من محاولات الرقابة والحجب الحكومية المستمرة بما يُعرف باسم ” فیلترینگ “، ولهذا يعد دور الجيل الجديد من الشباب و الثورة الرقمية في تشكيل المشهد السياسي والاجتماعي في إيران من أهم وأبرز زوايا التحليل المعاصرة في ظل وجود نسبة كبيرة من الشباب في المجتمع الإيراني.

مواقع التواصل الاجتماعي ساحة بديلة

نشأ الجيل الجديد في ظل الانفتاح التقني النسبي في إيران، مع قيود قوية من الدولة، وفي إيران هناك أكثر من 60 من السكان تحت سن الثلاثين، مما يجعل إيران من البلدان التي بها شريحة كبيرة من الشباب المؤثر.

وفي بلد تخضع فيه وسائل الإعلام التقليدية (الإذاعة والتليفزيون والصحف الرسمية)، والمواقع الإخبارية، لرقابة صارمة وتستخدم كأداة للحكومة لبث رسائلها وتوجيه الشعب، أصبحت المنصات الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي هي المصدر الأساسي لتشكيل الرأي العام والحصول على المعلومات دون رقابة.

ومع الانتشار الهائل للهواتف الذكية والتقدم التكنولوجي، تحول الشباب الإيراني إلى منصات مثل تليجرام (Telegram)وإنستجرام (Instagram)، وتويتر ( X حاليًا)، والتي لم تكتف بتقديم الأخبار والمعلومات، بل أتاحت لأول مرة مساحة للنقد المباشر والساخر والتحليل المستقل.

كذلك استخدام منصات مثل تيك توك ويوتيوب، التي تسمح وتتيح نشر مقاطع فيديو يظهر القمع، وكل المماراسات التي تحدث ضد الشعب، أو نشر أفكارهم ومطالبهم من خلال الفن والموسيقى.

وهناك أيضًا تطبيقات مثل Clubhouse التي تسمح بالمناقشات السياسية والاجتماعية بحرية.

وقد ساعد هذا التحول الرقمي، والثورة التكنولوجية في وجود ظاهرتين :

1- سرعة الحشد والتعبئة الشعبية والتأثير على الرأي العام، والذي ظهر جليا في احتجاجات وتظاهرات عام 2009 اعتراضًا على نتائج انتخابات الرئاسة حيث اعتبروا النتائج مزورة، والتي فاز بها الرئيس الإيراني الأسبق أحمدي نجاد لفترة رئاسية ثانية، والتي عرفت باسم (جنبش سبز أو الحركة الخضراء)، حيث كانت في البداية رمز لحملة المرشح الرئاسي ميرحسين موسوي ولكن بعد الانتخابات أصبح رمزًا للوحدة والأمل، وكان شعار هذه التظاهرات (راى من كجاست؟ أي أين صوتي؟) والتي تعاملت معها الشرطة الإيرانية بعنف وقُتلت (نِدا آقا سلطان Nedā Āghā-Soltān)حيث انتشرت مشاهد قتلها واتخذوا من مقتلها واسمها رمزا للتظاهرات وأصبح نداء ايران (نداى إيران) أو صوت إيران) حيث أن كلمة ندا في الفارسية ترادف وتعني كلمة نداء بالعربية أي الصوت أو الدعاء .كذلك التظاهرات التي حدثت في سبتمبر 2022 بعد وفاة مهسا اميني، المعتقلة من قبل شرطة الأخلاق بتهمة ارتداء الحجاب بطريقة غير لائقة وما يُعرف في الفارسية باسم (بد حجابي)، وتبنت التظاهرات شعار (زن، زندگی، آزادی) أي (المرأة، الحياة، الحرية) والتي أصبحت رمزًا للحشد الشعبی وتحولت إلى حركة أو انتفاضة، واستخدمت وسائل التواصل الاجتماعي لنشر الصور، مقاطع الفيديو، وغيرها لنقل ما يحدث على أرض الواقع للواقع الافتراضي.

كذلك استخدمت الموسيقى والفن للتعبير عن مطالب المجتمع، والتي ساعدت وسهلت هذه المنصات انتشارها مثل أغنية (براى Baraye) أي (من أجل) للمطرب شروین حاجی‌ آقاپور (شيرفين حاجي بور) التي جمعت رسائل من المجتمع على وسائل التواصل وأصبحت نشيدا للاحتجاج، والتي تسببت في اعتقاله من قبل السلطات الإيرانية، والتي حققت وقت نشرها حوالي 40 مليون مشاهدة في أقل من 48 ساعة قبل حذفها، وحصدت الأغنية جائزة (Grammy) العالمية عن (أفضل أغنية للتغيير الاجتماعي) عام 2023.

2- بناء الهوية السياسية المستقلة، حيث ساعدت هذه المنصات على تشكيل وعي الشباب وبناء هويته السياسية المستقلة، والتي تختلف عن قيم المؤسسة الدينية الحاكمة، فأصبحت قضايا حقوق المرأة، والفساد الاقتصادي وغيرها تناقش علنًا على نطاق واسع ومن خلال الهاشتاج تتحول بسرعة إلى اتجاهات عامة أو (Trends) تفرض نفسها على الأجندة السياسية.

التحديات والمخاطر

تواجه هذه المواقع والمنصات الإلكترونية عدد من التحديات والمخاطر منها

1- الرقابة والتقييد الحكومي: حيث يتم حجب دوري للتطبيقات والمواقع، مراقبة المحتوى، كذلك قطع خدمات الإنترنت أوقات الأزمات والتظاهرات، فرض تشريعات لجرائم التعبير عن الرأي على مواقع التواصل الاجتماعي حيث أقر البرلمان الإيراني قانونا يقضي بإشراف الحكومة على نشاط مواقع التواصل الاجتماعي واستخدام الإنترنت عام 2021، وبعد حرب الـ 12 يومًا الأخيرة تم تقديم مشروع قانون إلى البرلمان من أجل المصادقة عليه، تمّ إعداده بناءً على اقتراح من السلطة القضائية، ويهدف إلى تشديد العقوبات والقيود على محتوى مواقع التواصل الاجتماعي تحت عنوان مواجهة “الأخبار الكاذبة والمضللة”.يُستخدم هذا المشروع لـ”تشديد عقوبات التجسس والتعاون مع إسرائيل”.

2- القمع والعنف: مستخدمو وسائل التواصل الذين يكشفون عن الفساد أو القمع يعاقبون، ما بين اعتقالات ومحاكمات، ومن الحوادث الشهيرة اعتقال المحرر والمترجم “حسين شنبه زاده” بعد تعليقه على أحد التغريدات الرسمية للمرشد الإيراني علي خامنئي، على منصة “إكس” بنقطة (.)، وقد حصل تعليقه على إعجابات أكثر بضعفين من منشور خامنئي، ونشط حسين شنبه زاده، بشكل مجهول تحت اسم “محرر حساب” عبر منصة إكس، وتم التعرف عليه عام 2019 واعتقاله بتهمة أمنية. وحكمت عليه “المحكمة الثورية” في طهران بالسجن 5 سنوات و 10 أشهر بتهمتي “إهانة المقدسات وزعيم الجمهورية الإسلامية والدعاية ضد النظام”، كان منها 3 سنوات و6 أشهر قابلة للتطبيق.

3- التضليل والتدخل الإعلامي: تستخدم الدولة حسابات وهمية (bots) لنشر الدعاية، وتوجيه الرأي العام.

تأثير مواقع التواصل الاجتماعي على المشهد السياسي:

1- إعادة تشكيل الخطاب السياسي العام: حيث يقوم بتحويل القضايا التي كانت محجوبة أو هامشية، إلى قضايا مطروحة للنقاش وتتصدر المشهد مثل قضايا حقوق المرأة، العدالة الاجتماعية، وحرية التعبير.

2- تمكين المجتمعات المدنية الناشئة: حيث تمكن الشباب الإيراني من تصدر المشهد الإعلامي والسياسي، لتفوقهم في استخدامه.

3- الضغط على النظام، دوليا ومحليا، من خلال الصور والتقارير التي تنشر عالميا، مما يزيد من الضغط على الحكومة لتبرير أفعالها أمام الرأي العام الدولي.

4- تحدي لأطر السلطة التقليدية، التي تواجه قدرة الشباب على تجاوز الوسائل التقليدية للمشاركة السياسية.

5- تغييرات محتملة في السياسة الداخلية والقوانين، في بعض الأحيان يحدث تعديل لبعض القوانين كرد فعل للضغوط الشعبية سواء الرقمية أو الحقيقية.

تهديد افتراضي

تدرك المؤسسة الحاكمة في إيران أن التكنولوجيا هي تحدٍ وجودي يهدد سيطرتها على الأيديولوجية العامة، ولذلك اتبعت استراتيجية مزدوجة للتعامل مع هذا التهديد:

أ. استراتيجية القمع والرقابة:

تعتمد السلطات الإيرانية على محاولة حجب التطبيقات الغربية بشكل مستمر، لكن هذا الحجب لا يمنع الأغلبية الساحقة من الوصول إليها باستخدام برامج فك الحجب (VPN). كما يقوم جهاز الشرطة الإلكترونية (فتا) وأجهزة مخابرات الحرس الثوري الإيراني بعمليات مراقبة دقيقة واعتقال وتوجيه اتهامات بالمساس بالأمن القومي ضد الناشطين الرقميين ومديري القنوات الشعبية، والهدف الأساسي هو إثارة الخوف الرقمي لردع المستخدمين عن المشاركة السياسية الصريحة.

ب. استراتيجية التوظيف والمساومة:

في مفارقة واضحة، يعترف النظام ضمنيا بقوة هذه المنصات من خلال استخدامها الرسمي. نجد أن كبار المسؤولين أنفسهم يديرون حسابات نشطة على تويتر وإنستجرام، ويستخدمونها في الدبلوماسية العامة ومخاطبة الجمهور، وعندما لا تنجح محاولات الحجب، تحاول الدولة إطلاق تطبيقات مراسلة محلية بديلة مثل منصات سروش (Soroush)و إيتا (Eitaa) بديل تليجرام (Telegram) ، ومنصة روبيكا (Rubika)بديل إنستجرام(Instagram)، ساينا (Sina) بديل فايبر (Viber) أو واتساب (WhatsApp)، آپارات (Aparat) بديل يوتيوب (YouTube) لربط المستخدمين بشبكة داخلية يسهل السيطرة عليها، على أمل عزلهم عن المحتوى العالمي. ومع ذلك، لا تحظى هذه البدائل بثقة المستخدمين الذين يخشون من سهولة المراقبة.

مستقبل التحدي الرقمي

لقد حولت الثورة الرقمية الشباب الإيراني من مجرد متلقي سلبي إلى فاعل سياسي نشط. وأصبح الجيل الجديد لا ينتظر أن يُمنح الحق في التعبير، هو يصنعه بنفسه، ورغم كل المعوقات استطاع هذا الجيل أن يصنع الخبر ويحرك الأحداث من خلف الشاشات، وحول مواقع التواصل الاجتماعي إلى ساحة جديدة للصراع السياسي، وأن يدفع بالخطاب السياسي نحو مزيد من الشفافية والمساءلة، ولو تحت التهديد.

ويبقى المشهد مفتوحا على سيناريوهين رئيسيين: إما أن يستمر هذا الجيل في إجبار النظام على التكيف التدريجي مع الحريات الرقمية (كما حدث مع التساهل النسبي مع انستجرام لأسباب اقتصادية)، أو أن تقوم السلطات بتصعيد وتيرة “إضفاء الطابع الأمني” على الفضاء الرقمي، ما قد يؤدي إلى مزيد من التصادم بين الرغبة في التعبير وحتمية السيطرة. يبقى هذا الصراع بين جيل التواصل وحاجز الرقابة هو أحد أهم المحددات لمستقبل السياسة في إيران.

 

 

Mariam Hassan

مريم حسن كاتبة وصحفية متخصصة في الشأن الهندي ـ الباكستاني و جنوب شرق آسيا خبرة سنتين في مجال العمل الصحفي والإعلامي. أماكن العمل : داي نيوز الإخباري. أعمل على ترجمة وتحرير الأخبار والتقارير الصحفية المتنوعة. تحليل و دراسة التحولات السياسية والتهديدات الأمنية في آسيا وانعكاساتها على الأمن القومي المصري والعربي. متابعة التطورات الاقتصادية والتكنولوجية، وتحليل سياسات القوى الإقليمية وأنماط التحالفات بين جنوب آسيا والشرق الأوسط.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى