
مع دخول الحرب الإسرائيلية على غزة عامها الثاني وتفاقم الأزمة الإنسانية، تفتح القاهرة ملف “اليوم التالي” بخطوة لافتة تحمل أبعادًا أمنية وسياسية كبيرة. فمصر، التي وضعت نفسها في قلب معادلة الحل، شرعت بتدريب آلاف العناصر الشرطية الفلسطينية بالتنسيق مع الأردن والسلطة الوطنية، في تحرك يعكس مسعى عربي منظم لإعادة رسم مستقبل القطاع بعد حماس، وقطع الطريق أمام أي فراغ أمني أو تدخل خارجي.
ففي أغسطس الماضي، أعلن وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي عن بدء تدريب نحو 5 آلاف شرطي فلسطيني بالتنسيق مع الأردن والسلطة الوطنية الفلسطينية، في إطار خطة متكاملة تستهدف ضمان الاستقرار في القطاع بعد توقف القتال.
وقال عبد العاطي إن الخطة لا تقتصر على هذه الدفعة، بل تشمل أيضًا نشر 5 آلاف آخرين من عناصر الشرطة التابعة للسلطة الفلسطينية، بما يرفع العدد إلى 10 آلاف عنصر مؤهل لتولي مهام حفظ الأمن الداخلي.
وأوضح عبدالعاطي أن “الرؤية واضحة تمامًا بشأن إدارة غزة بعد الحرب”، مشيرًا إلى أن هذه الترتيبات ستكون محور نقاشات أساسية في مؤتمر إعادة إعمار القطاع.
لجنة انتقالية لإدارة القطاع
كما كشف أن القاهرة توصلت إلى توافق مع مختلف الأطراف المعنية لتشكيل لجنة انتقالية من 15 شخصية فلسطينية بارزة، لتتولى إدارة شؤون القطاع لمدة 6 أشهر. وتعمل اللجنة كمسرّع للأمن والخدمات الأساسية، بحيث تكون غزة جاهزة تمامًا لتسليم الإدارة بشكل كامل للسلطة الفلسطينية بعد انتهاء الفترة الانتقالية، دون أي فراغ أو فوضى.
قوة أمنية فلسطينية مدعومة عربيًا
وبحسب مصادر دبلوماسية، فإن القوة الجديدة يجري إعدادها لتكون قوامها نحو 10 آلاف عنصر أمني، معظمهم من كوادر الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، إلى جانب عناصر من حركة “فتح” في غزة. هؤلاء تم اختيارهم بدقة ويخضعون لتدريب احترافي داخل المعسكرات والأكاديميات المصرية، يمتد لستة أشهر، يشمل إعدادًا بدنيًا وقتاليًا متطورًا لتأهيلهم لمهام حساسة في بيئة أمنية معقدة وصعبة.
وأكدت المصادر أن هذه القوة ستعتمد على العناصر الفلسطينية بالدرجة الأولى، لكنها ستستند أيضًا إلى دعم ومساندة عربية، في مقدمتها مصر والأردن، مع مساهمات أصغر من دول عربية أخرى، بما يضمن عدم حدوث فراغ أمني أو فوضى في غزة عقب انتهاء الحرب.
كما شددت على أن هذه القوات ستكون بعيدة عن أي وصاية أو تدخل خارجي، ولن تكون خاضعة لسيطرة الفصائل، الأمر الذي يجعلها أكثر قابلية للقبول داخليًا وإقليميًا.
مصر في القمة: دور تاريخي واستراتيجي
وكان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قد شدد خلال القمة العربية الاستثنائية في مارس الماضي على أن القاهرة تعمل منذ أشهر على تدريب الكوادر الأمنية الفلسطينية لتولي مهام حفظ الأمن في غزة بعد الحرب، باعتبار ذلك “جزءًا أصيلًا من دور مصر التاريخي في دعم القضية الفلسطينية وضمان استقرار المنطقة”.
من جانبه، أوضح اللواء أركان حرب أسامة محمود كبير، المستشار في كلية القادة والأركان، أن ما تقوم به الأجهزة الأمنية المصرية هو امتداد طبيعي لدور القاهرة في مواجهة الكارثة الإنسانية التي ضربت غزة نتيجة الحرب.
اللجنة التكنوقراطية: إدارة شاملة للقطاع
وأضاف كبير أن هذه الخطوة تترجم عمليًا مقترح “لجنة الإسناد المجتمعي” الذي جرى التوافق عليه في القاهرة قبل عام تقريبًا، وينص على انسحاب حركة “حماس” من المشهد السياسي بمجرد الوصول إلى اليوم التالي للحرب.
وتضم هذه اللجنة شخصيات فلسطينية رفيعة المستوى ذات كفاءة فنية عالية، تتبع إداريًا السلطة الفلسطينية، وتتولى إدارة مختلف الملفات الأمنية والاجتماعية والاقتصادية والصحية والتعليمية خلال المرحلة الانتقالية.
وفي السياق ذاته، أكد اللواء مروان مصطفى، مدير مكتب الإعلام الأمني لمجلس وزراء الداخلية العرب الأسبق، أن مصر وضعت خطة استراتيجية متكاملة لمستقبل غزة، تشمل الجوانب الأمنية والسياسية والإنسانية.
وقال إن الخطة تنص على تشكيل لجنة تكنوقراط من 15 شخصية فلسطينية لإدارة القطاع لفترة مؤقتة مدتها 6 أشهر، بإشراف عربي ودولي، على أن تكون مهمتها الأساسية ضمان انتقال هادئ للسلطة، وتسيير شؤون الحياة اليومية، والإشراف على إعادة الإعمار وتوفير الاحتياجات الأساسية لسكان القطاع.
تأتي هذه التحركات المصرية فيما تواصل إسرائيل تنفيذ مخططها الوحشي لبسط السيطرة على غزة، وسط تصاعد الأزمة الإنسانية وتفاقم الجوع وسوء التغذية بين السكان، ما يجعل القاهرة اللاعب الأكثر فاعلية في وضع حلول عملية تضمن استقرار القطاع وترسيخ هويته الفلسطينية بعيدًا عن محاولات التهجير أو السيطرة الخارجية.
رسالة مصر للعالم والدور الإقليمي
قال المحلل السياسي والخبير في الشؤون العربية طلعت طه في حديث خاص لـ”داي نيوز” إن تدريب القوات الفلسطينية في القاهرة يعكس مكانة مصر العلمية والتكنولوجية وقوة مؤسساتها الأمنية والعسكرية، مؤكدًا أن الخطوة جاءت من منطلق الأخوة والتعاون مع الشعب الفلسطيني.
وأضاف طه أن هذا التدريب يمثل رسالة واضحة للمجتمع الدولي، خصوصًا بعد إقرار جامعة الدول العربية بضرورة وضع ترتيبات لـ”اليوم التالي” للحرب في غزة، بما يشمل إعادة الإعمار والحفاظ على الأمن في القطاع والضفة الغربية.
وأوضح أن الشرطة الفلسطينية مرشحة لتكون بديلًا مؤكدًا بعد حماس، التي ستغادر المشهد وفق ما أعلنته، لتتولى تنظيم الحياة وحماية الأمن في غزة.
وأشار طه إلى أن مصر، التي لطالما كانت السند الأبرز للقضية الفلسطينية، لا تسعى إلى تضخيم دورها لأنها بالفعل صاحبة ثقل سياسي وإقليمي كبير، قائلًا: “مصر تدخل في أي ملف من أجل استقرار المنطقة العربية بأكملها، فهي صاحبة سياسة معروفة للعالم قائمة على السلام والتسلح بالقوة للدفاع عن الوطن”.
وحول البعد الإقليمي، شدد طه على أن مصر معروفة بنفوذها الاستراتيجي بحكم موقعها الجغرافي، لكنها لا تسعى إلى السيطرة أو التوسع، إذ تظل عقيدة الجيش المصري راسخة في حماية الشعب والحدود.
دور الأردن ودعم القضية الفلسطينية
أما عن دور الأردن، فأكد طه أنه لا يقل أهمية، حيث تحمي المملكة الضفة الغربية، وتتصدى لأي محاولات للتهجير، فضلاً عن إرسال المساعدات ودعمها المستمر للقضية الفلسطينية بقيادة الملك عبدالله الثاني.
ولفت طه إلى أن نشر العناصر الشرطية الفلسطينية يهدف بالأساس إلى ضمان الجاهزية لمرحلة ما بعد وقف إطلاق النار، بحيث تنطلق عمليات إعادة الإعمار وتوزيع المساعدات فورًا، دون تعطيل.
وأضاف طه أن الجامعة العربية أوصت بمرحلة انتقالية مدتها ستة أشهر، تنتقل بعدها إدارة القطاع بالكامل إلى السلطة الفلسطينية.
وفي ختام حديثه، انتقد طه ما وصفه بمحاولات التهجير القسري التي روّج لها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، مؤكدًا أن مصر تقود تحركات مضادة لإفشال هذه المخططات، وضمان بقاء الفلسطينيين على أرضهم.