
مصرمصر وإيران تُدشِّنان شكلًا جديدًا من العلاقات الدبلوماسية في مفاجأة غير متوقعة، وقع وزير الخارجية الإيراني “عباس عراقتشي” والمدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية “رافائيل جروسي” Rafael Grossi مساء الثلاثاء 9 سبتمبر 2025م، في قصر الاتحادية بالقاهرة، “مذكرة تفاهم” برعاية مصرية خالصة، تحدد أطر التعاون بين طهران والوكالة الدولية وآليات دخول مفتشي الوكالة إلى المنشآت النووية الإيرانية.
عقب توقيع المذكرة مباشرة، وجَّه “عراقتشي” عبر حسابه الشخصي على منصة “إكس” الشكر إلى الحكومة المصرية الممثلة في الرئيس “عبد الفتاح السيسي” ووزير الخارجية والهجرة “بدر عبد العاطي” لما بذلاه من جهد في سبيل التوصل إلى إطار يحدد نهج التعاون بين طهران والوكالة الدولية.
في اليوم التالي، تلقى الرئيس “عبد الفتاح السيسي” اتصالًا هاتفيًا من نظيره الإيراني “مسعود بزشكيان”، أعرب فيه المتصل عن تقديره العميق للدور المصري في تسيير الحوار بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية، ووجَّه الشكر إلى الرئيس “السيسي” على جهوده ورعايته الشخصية في تقريب الرؤى بين إيران والوكالة الدولية، مما أفضى إلى استئناف التعاون بين الطرفين بوساطة مصرية.
وقد بحث الرئيسان خلال الاتصال سبل تعزيز العلاقات الثنائية بين البلدين في مختلف المجالات، بما يخدم مصالح الشعبين ويُسهم في ترسيخ الأمن والاستقرار الإقليميين، وشددا على رفضهما القاطع دفع الشعب الفلسطيني إلى التهجير من أراضيه التاريخية.
يأتي توقيع مذكرة التفاهم بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية بعد جهود حثيثة “غير معلنة” بذلتها الحكومة المصرية طيلة الأسابيع الماضية، عقب تعليق طهران تعاونها مع الوكالة الدولية ردًا على موقف الوكالة المتخاذل إزاء ضرب المنشآت النووية الإيرانية من قبل إسرائيل وأمريكا أثناء الحرب الإيرانية الإسرائيلية.
توقيع هذا “الاتفاق الإطاري” يعد صفعة مدوية على وجه الولايات المتحدة ودول الترويكا الأوروبية (بريطانيا، فرنسا، ألمانيا) التي دخلت في “مباحثات ماراثونية” مع طهران قبل الحرب وبعدها، ولم تنجح في التوصل إلى أية صيغة بين طهران والوكالة الدولية ترضي الطرفين، وترأب ما خلَّفته الحرب من صُدوع في جدار العلاقات الإيرانية الأوروبية.
كما أنه يؤكد بشكل غير مباشر أن الدول الغربية لا تريد غلق الملف النووي الإيراني، بل تسعى إلى إبقائه مفتوحًا إلى الأبد من أجل استخدامه “فزاعة” تُخيّف بها دول الخليج؛ وهي فزاعة –أشبه بفزاعة المد الشيعي– أمست تثير الضحك والسخرية أكثر من الرعب والهلع.
إن مصر، عرَّابة هذا الاتفاق، نجحت خلال أسابيع معدودة فيما فشل فيه الغرب على مدار عقود طويلة، وتمكَّنت بحنكة أن تعي قواعد اللعبة النووية وتُدِيرها بنحو يحقق مكاسب للطرفين ويقلل من خسائرهما، وفي الوقت نفسه يحافظ على مكانتهما الإقليمية والدولية.
الوساطة المصرية في تسوية الخلاف بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية، واستضافة القاهرة لمباحثات نووية مباشرة بين الطرفين، لم تكن مفاجأة غير متوقعة مثلما يرى أغلب المراقبين الدوليين، لكنها نتيجة منطقية يتوصل إليها كل من استقرأ توجهات السياسة المصرية في الفترة الأخيرة وتحركاتها الدبلوماسية وحرص أعلى رأس في الدولة على فتح قنوات اتصال دائمة مع الجانب الإيراني طوال الحرب الإيرانية الإسرائيلية وبعدها.
اتصالات مستمرة بين الرئيسين المصري والإيراني ووزيري خارجية البلدين حول تنسيق أوجه التعاون في حل القضايا محل الاهتمام المشترك على الصعيدين الإقليمي والدولي، وتصريحات صادرة من قيادة سياسية وعسكرية رفيعة المستوى في مصر تشير صراحة إلى اهتمام القاهرة بالحفاظ على النظام الإيراني قائمًا، يقابلها تصريح وزير الخارجية الإيراني في أكثر من مناسبة بأن علاقة طهران بالقاهرة حاليًا أفضل كثيرًا من علاقتها بدول لديها علاقات دبلوماسية قوية ووثيقة مع طهران؛ كلها إشارات كانت تُنبئ بأن هناك مباحثات غير معلنة بين مصر وإيران حول عدد من القضايا الإقليمية يتصدرها “الملف النووي”.
مستوى العلاقات بين الدول يُقاس بارتفاع درجات التمثيل الدبلوماسي أو انخفاضها، اتفاق الرؤى السياسية أو اختلافها، تواصل الزيارات الرسمية أو انقطاعها، لكن هناك علاقات تولد من رحم الأزمات والتغيرات السياسية والأحداث المستجدة والظروف الراهنة؛ علاقات تأخذ مسارات أخرى غير المسارات المتعارف عليها. علاقات تجمع دولًا بينها اختلافات أكثر من التوافقات، وتناقضات سياسية وفكرية وعقائدية داخليًا وخارجيًا.
لذا نستطيع القول إن مصر وإيران الدولتين اللتين لا تربطهما أية علاقات دبلوماسية، قد دشَّنتا شكلًا جديدًا من العلاقات بعيدًا عن الصورة التقليدية لها رسميًا وشعبيًا؛ نموذجًا سيُدَّرس في تاريخ العلاقات الدبلوماسية بين الدول، وستتناوله مراكز الدراسات الإستراتيجية في العالم بالبحث والتحليل زمنًا طويلًا.
لقد تعلَّمت إيران الدرس من حربها مع إسرائيل، وأدركت أن سياسة “الاتجاه شرقًا” القائمة على تعزيز العلاقات مع القوى الفعَّالة في الكتلة الشرقية كروسيا والصين باتت فاشلة تمامًا، بعدما تجنبت موسكو تقديم أية مساعدات عسكرية لطهران أثناء الحرب الإيرانية الإسرائيلية أو الانخراط في النزاع الإيراني الإسرائيلي الأمريكي بأي شكل من الأشكال.
إن النظام الإيراني أثبت أنه أذكى كثيرًا مما كان يتصور العرب أو الغرب، وعلى عكس ما توقع الكثيرون لم يدلف إلى حلقة جديدة من الصراع مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، واستطاع عن طريق التقارب مع مصر، الاستفادة من استقلالية القرار السياسي للدولة المصرية وثقل مكانتها الإقليمية والدولية وقدرتها على خلق توازنات مع القوى الكبرى في حل الخلاف مع الوكالة الدولية.
على هذا النحو، دخلت مصر كلاعب محوري في الملف النووي الإيراني، وأصبحت الوسيط الأكثر نجاحًا في تسوية الأزمات الإيرانية مع الغرب بشكل عام، وهو أمر سنشهده خلال الفترة المقبلة.
التقارب المصري الإيراني أضحى ضرورة ملحة في ظل المتغيرات الجيوسياسية المتسارعة في منطقة الشرق الأوسط؛ هذا التقارب يقف كحائط صد أمام جموح إسرائيل في المنطقة دون رادع أو جادع.
مصر وإيران؛ الدولتان القديمتان القويتان الباقيتان من فوضى الشرق الأوسط الهدامة –بعيدًا عن تركيا صاحبة المشروع المؤدلج إسرائيليًا وأمريكيًا في سوريا– تدركان الآن بحكم التاريخ واللحظة الراهنة أنهما المحطة الأخيرة في صراع الشرق الأوسط وحجر عثرة أمام قيام “دولة إسرائيل الكبرى”، وأن استقرارهما جزء لا يتجزأ من استقرار ما تبقى من المنطقة الغارقة في مؤامرات تحيكها أطراف داخلية وخارجية.