
في تطور غير مسبوق على الساحة السياسية التركية، أعلن حزب الشعب الجمهوري، أكبر أحزاب المعارضة، إغلاق مقره الرئيسي في إسطنبول بعدما اقتحمه وصي قضائي تحت حماية الشرطة، في خطوة أثارت موجة غضب واحتجاجات واسعة، واعتبرها قادة الحزب “انقلابًا قضائيًا”.
وأكد الحزب في بيان رسمي أن المبنى المحاصر لليوم الثالث على التوالي لم يعد مقره الرئيسي، معلنًا نقل مقره إلى موقع آخر أُبلغ به والي إسطنبول ومحكمة التمييز، ردًا على قرارات الوصاية ومحاولة فرض واقع جديد عليه.
تصاعد التوتر بعد صدور قرار قضائي يقضي بعزل إدارة الحزب في الولاية، وتعيين القيادي المخضرم جورسل تكين، النائب السابق لرئيس الحزب، رئيسًا مؤقتًا على فرع الحزب في المدينة. وتأتي هذه الخطوة ضمن سلسلة إجراءات قضائية استهدفت الحزب خلال الأشهر الماضية، بدعوى مخالفات في المؤتمر الإقليمي لعام 2023، بما في ذلك اتهامات بالرشاوى المالية، مع جلسة مرتقبة للمحكمة في 15 سبتمبر قد تؤدي إلى إلغاء نتائج المؤتمر الثامن والثلاثين، الذي شهد انتخاب أوزيل خلفًا لكمال قليتشدارأوغلو.
ومع إعلان تكين توجهه إلى مقر الحزب، دعا رئيس الحزب أوزجور أوزيل أنصاره إلى التظاهر رفضًا للقرار القضائي وللإجراءات الأمنية، بما في ذلك إقامة حواجز حول المقر ومنع الوصول إليه، وقال مخاطبًا أنصاره: “أدعو جميع الديمقراطيين وأعضاء الحزب إلى حماية بيت أتاتورك في إسطنبول”، في إشارة إلى مؤسس الجمهورية مصطفى كمال أتاتورك.
اندلعت اشتباكات بين أنصار الحزب والشرطة، بعدما فرضت قوات الأمن طوقًا مشددًا وأغلقت الطرق المؤدية إلى المبنى. حاول المحتجون إزالة الحواجز والاعتصام أمام المقر، ما دفع الشرطة لاستخدام الغاز المسيل للدموع ورذاذ الفلفل لتفريقهم، وأسفرت الاشتباكات عن اعتقال نحو 10 إلى 20 متظاهرًا من بين حوالي 200 مشارك.
حظر التجمعات وتقييد المنصات الرقمية
وفي محاولة للسيطرة على الوضع، فرضت السلطات التركية حظرًا للتجمعات والمظاهرات في ستة أحياء رئيسية.
في سياق متصل، فرضت السلطات قيودًا واسعة على منصات التواصل الاجتماعي الرئيسية، بما في ذلك “إكس” و”يوتيوب” و”إنستجرام” و”فيسبوك” و”تيك توك” و”واتساب”، في خطوة تهدف إلى الحد من انتشار مقاطع الفيديو والبث المباشر للمظاهرات خلال فترات الاضطرابات السياسية.
ومن جانبه، وصف الخبير القانوني في مجال الإنترنت يامان آقدينيز حجب منصات التواصل الاجتماعي بأنه انتهاك خطير للاتصالات الخاصة، مشيرًا إلى أن تنفيذ القرار في أول أيام العام الدراسي يعكس إجراءات قمعية تزيد من معاناة المواطنين وتفضح الطابع التعسفي للسلطات.
القضاء يضيق الخناق على المعارضة
ونفى حزب الشعب الجمهوري جميع الاتهامات الموجهة إليه، واعتبر الإجراءات القانونية حملة مسيسة تهدف إلى القضاء على أي تهديد انتخابي للرئيس رجب طيب أردوغان وإضعاف المعارضة.
ويأتي هذا في سياق سلسلة من الإجراءات ضد أبرز شخصيات الحزب، حيث اعتقلت السلطات رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو في مارس الماضي، ما أثار أكبر موجة احتجاجات منذ عقد، وشارك فيها آلاف المحتجين في مدن عدة، فيما قامت السلطات بحملة اعتقالات واسعة شملت طيفًا متنوعًا من المواطنين، من طلاب وصحفيين إلى موظفين ونقابيين، في مؤشر على تشديد الخناق على المعارضة المدنية في تركيا.
ويُنظر إلى اعتقال إمام أوغلو، أبرز منافسي أردوغان، كنقطة محورية في تصعيد التوتر بين المعارضة والحكومة.
ويُعد حزب الشعب الجمهوري، الذي تأسس على يد مؤسس الجمهورية مصطفى كمال أتاتورك، أقدم الأحزاب التركية وأقوى قوى المعارضة على مدار عقود.
وكان فوزه برئاسة بلديات كبرى مثل إسطنبول وأنقرة عام 2019 بمثابة ضربة قوية لحزب العدالة والتنمية الحاكم.
ويؤكد محللون أن القرارات القضائية الأخيرة تهدف إلى تقويض نفوذ الحزب في إسطنبول، المدينة الاقتصادية والسياسية الأهم في البلاد، والتي خسرها أردوغان بعد نحو 25 عامًا من السيطرة عليها.
ردود فعل حزبية غاضبة
أدان قادة حزب الشعب الجمهوري التدخل الأمني ووصفوه بأنه “انتهاك سافر للقانون والدستور”.
فقد كشف النائب دينيز يافوز يلماز عن إحباط محاولة تسلل لعناصر أمن بملابس مدنية إلى المقر، بينما شددت النائبة سيبال سوتيشماز على أن ما يجري ليس سوى “معركة من أجل الديمقراطية والعدالة”.
من جانبه، اعتبر النائب محمود تانال أن ما حدث “اعتداء مباشر على الدستور” في غياب أي مسوغ قضائي، فيما صعد رئيس الكتلة البرلمانية علي ماهر بشارير من لهجته قائلًا: “المبنى محاصر ومحتل من قبل قوات الأمن… إرادتنا السياسية تحت الأسر”.
أما نائب رئيس الحزب سعاد أوزتشاغداش، فاتهم السلطات بفرض “حصار خانق” على المقر وإغلاقه فعليًا.
محامو المعارضة في مرمى القمع
صرح إبراهيم قاب أوغلو، رئيس نقابة المحامين في إسطنبول، بأن عشرة محامين متخصصين في الدفاع وحقوق الإنسان اعتُقلوا منذ بداية ما وصفه بـ”هذا العام الأسود”.
وأوضح أن المحامي محمد بهليفان، الذي كان يمثل عمدة إسطنبول أكرم إمام أوغلو، اعتُقل بعد موكله في إطار تحقيقات فساد تعتبرها المعارضة ذات دوافع سياسية، ووصف اعتقاله بأنه محاولة لترهيب المحامين.
وأضاف قاب أوغلو أن أعضاء مجلس إدارة النقابة واجهوا بدورهم إجراءات قانونية تتعلق بـ”نشر دعاية إرهابية” و”معلومات كاذبة”، في وقت دانت فيه اثنتا عشرة منظمة حقوقية هذه الإجراءات واعتبرتها اعتداءً على استقلالية المهنة.
وأكدت عائشة بينجول ديمير، مديرة مشروع دعم التقاضي في مجال حقوق الإنسان، أن الإجراءات ضد المجلس التنفيذي للنقابة تمثل انتقامًا لمشاركتهم في أنشطة قانونية قائمة على الحقوق. كما شملت حملة الاعتقالات سبعة محامين في مدينة إزمير أثناء دفاعهم عن محتجين مرتبطين بالاحتجاجات ضد إقالة إمام أوغلو.
قمع الإعلام في تركيا: حرية الصحافة تحت حصار متصاعد
هدد المجلس الأعلى للإذاعة والتلفزيون التركي القنوات المعارضة بفرض عقوبات تصل إلى إلغاء التراخيص، محذرًا من بث محتوى قد يؤجج الفوضى.
وقد قوبلت تهديدات المجلس الأعلى للإذاعة والتلفزيون بانتقادات حادة من المدافعين عن حرية الصحافة ونقابات الإعلام.
فقد اعتبر اتحاد الصحفيين (HABER-SEN) بيان رئيس المجلس “تلويحًا بالعصا” في وجه وسائل الإعلام، مؤكدًا أن القانون التركي يحظر التدخل المسبق في البث وأن المجلس تجاوز صلاحياته.
وأشارت النقابة إلى أن المجلس سبق أن قطع بشكل غير قانوني بثًا مباشرًا لاحتجاجات المعارضة في مارس الماضي، في إطار سياسة منهجية لتكميم الأصوات المعارضة.
وتكشف بيانات الاتحاد الأوروبي للصحافة الحرة (MFRR) أن المجلس فرض خلال النصف الأول من عام 2025 نحو 46 إجراءً عقابيًا، بينها 42 استهدفت وسائل إعلام معارضة، بغرامات تجاوزت 100 مليون ليرة تركية (نحو مليوني يورو). وتشمل القنوات المستهدفة محطات بارزة مثل TELE 1 وNOW TV وHalk TV وSözcü TV، التي تواجه تضييقًا متصاعدًا بسبب تغطيتها للقضايا السياسية الحساسة.
وتعكس هذه الإجراءات التدهور المزمن في سجل حرية الصحافة بتركيا، التي احتلت المرتبة 159 من أصل 180 دولة في التصنيف العالمي لحرية الصحافة لعام 2025 الصادر عن منظمة “مراسلون بلا حدود”.
ردود فعل دولية غاضبة
ووصف المقرر في البرلمان الأوروبي لشؤون تركيا، ناتشو سانشيز آمور، اقتحام الشرطة لمقر حزب الشعب الجمهوري في إسطنبول بأنه صادم ويشكل انتهاكًا واضحًا للمعايير الديمقراطية، مؤكدًا أن هذه التطورات جزء من “آلة مستمرة ومعقدة لقمع الديمقراطية في تركيا”.
وحذر آمور من أن تدخل المحكمة وتعيين لجنة الوصاية يشكل المسمار الأخير في نعش التعددية الحزبية التركية، ويضعف بشدة موقع المعارضة، ويعكس تصعيدًا صارخًا ضد أي صوت معارض.
وأعربت منظمات حقوقية دولية وأعضاء في البرلمان الأوروبي عن قلقهم العميق إزاء التدهور المستمر لسيادة القانون في تركيا، محذرين من أن الاعتقالات الجماعية والضغوط القضائية قد تسرّع من تآكل المعايير الديمقراطية في البلاد.
يُذكر أن سجن مرمرة في سيليفري أصبح رمزًا لتصاعد القمع السياسي في تركيا، لاحتجازه أبرز شخصيات المعارضة.
تداعيات الأزمة على السياسة الداخلية والخارجية لتركيا
وقالت الباحثة في الشؤون السياسية سماء جمال لـ”داي نيوز” إن الأزمة الحالية تسهم في إعادة رسم خريطة التحالفات البرلمانية، بما يعزز موقع الحزب الحاكم، الذي يستفيد من تفكك المعارضة وإغراقها في صراعات تنظيمية داخلية.
وأضافت جمال أنه في حال فشل حزب الشعب الجمهوري في توحيد صفوفه خلال مؤتمره المقبل، فإن ذلك سيمنح الائتلاف الحاكم قدرة أكبر على المناورة التشريعية، خصوصًا في ملفات الأمن والاقتصاد، حتى وإن لم يمتلك أغلبية دستورية مطلقة لتمرير التعديلات الدستورية.
وأكدت جمال أن العودة إلى مرحلة ما قبل تدخل السلطات أمر صعب على المدى القريب، في ظل تصاعد الضغوط الحكومية والقضائية وتزايد الانقسامات الداخلية. ورأت الباحثة في الشؤون السياسية أن الحزب يمكنه الحفاظ على شرعيته عبر عدة مسارات: أولًا، توظيف الشارع والاحتجاج السلمي كأداة ضغط مع الحفاظ على خطاب متزن لتجنب تقديم نفسه كمصدر لعدم الاستقرار، والاستفادة من شعبية قياداته لتفادي محاولات الإقصاء السياسي. ثانيًا، تعزيز التعاون مع الكتل الحزبية الصغيرة لتوفير مظلة حماية جماعية. ثالثًا، الاستمرار في المسار القضائي من خلال الطعون المحلية والدولية على القرارات محل الجدل، وهو مسار بطيء لكنه ضروري لترسيخ الشرعية على المدى الطويل.
وأشارت جمال إلى أن فاعلية هذه المسارات مرتبطة بقدرة الحزب على إدارة خلافاته الداخلية وتوحيد خطابه السياسي، بدلًا من الانجرار إلى صراعات شخصية قد تضعف موقفه.
وعلى الصعيد الدولي، قالت الباحثة في العلاقات الدولية سارة عبدالسلام لـ”داي نيوز” إن الأزمة الحالية تؤكد الانطباع المترسخ في العواصم الأوروبية بأن تركيا تتجه تدريجيًا نحو نموذج أكثر سلطوية.
وأضافت عبدالسلام أن هذا التوجه سينعكس مباشرة على ملف العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، مشيرة إلى أن أي خطوات مستقبلية لتحديث الاتحاد الجمركي أو منح إعفاء التأشيرات ستصبح أكثر تعقيدًا، إذ سيرتبط التقدم في هذه الملفات بتحقيق تحسينات ملموسة في وضع الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان في تركيا.
أما بالنسبة للولايات المتحدة، فأوضحت عبدالسلام إلى أن الموقف يتسم بالحذر، حيث ستواصل واشنطن التعبير عن قلقها إزاء القمع السياسي، من دون توقع اتخاذ إجراءات قاسية على المدى القريب، نظرًا لأن الأولوية تبقى الحفاظ على تركيا كحليف استراتيجي في حلف الناتو، خصوصًا في ظل التوتر مع روسيا والأزمات في الشرق الأوسط.
وعن احتمال فرض عقوبات دولية أو ضغط دبلوماسي على الحكومة التركية، قالت الباحثة في العلاقات الدولية إن المؤشرات الحالية توحي بأن الضغط سيبقى في إطار دبلوماسي وسياسي، عبر بيانات الإدانة وتحركات المؤسسات الأوروبية وربط أي امتيازات اقتصادية أو سياسية بتحسن الوضع الحقوقي.
وأوضحت عبدالسلام أن استخدام العقوبات الفردية قد يكون واردًا إذا تصاعد القمع بشكل دموي أو تم فرض أحكام جماعية على قيادات المعارضة، لكنها استبعدت لجوء الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة إلى عقوبات اقتصادية واسعة النطاق، نظرًا لتعارض ذلك مع المصالح المشتركة في مجالات الطاقة والهجرة والأمن الإقليمي.
الاضطرابات السياسية تهز أسواق المال التركية
شهدت أسواق المال التركية اضطرابًا حادًا على خلفية الأزمة السياسية، حيث خسرت بورصة إسطنبول نحو 5.5٪ بعد صدور الحكم القضائي بتغيير قيادة حزب المعارضة الرئيسي.
وأفادت بلومبرج بأن البنوك الحكومية تدخلت لدعم الليرة، التي تراجعت إلى مستويات قياسية مقابل الدولار واليورو، عبر بيع دولارات بقيمة 5 مليارات يورو منذ صدور القرار، محذرة من قلق المستثمرين إزاء تصاعد التوترات السياسية وتأثيرها على الاستقرار المالي.