تقارير

الصين وأمريكا: سباق تسلح تكنولوجي يعيد تشكيل ميزان القوى العالمي

يشهد العالم اليوم حربًا باردة تكنولوجية جديدة بين الولايات المتحدة والصين، تتمحور حول السيطرة على الذكاء الاصطناعي (AI) والحوسبة الكمومية، وهما المجالان اللذان يعدان بإعادة تشكيل الاقتصاد العالمي والتفوق العسكري.

على عكس الحرب الباردة التقليدية، يعقّد هذا الصراع الروابط التجارية العميقة وسلاسل التوريد المترابطة، مما يجعل الفصل بين الاقتصادين الأمريكي والصيني تحديًا شبه مستحيل.

 السياق الاقتصادي والتجاري

تُبرز التأخيرات الأخيرة في فرض الرسوم الجمركية الأمريكية على الصين، إلى جانب تصريحات وزير الخزانة الأمريكي سكوت بيسنت عن احتمال تمديد هذه التأخيرات، مدى تعقيد العلاقة الاقتصادية بين البلدين.

رغم السياسات الحمائية التي تتبناها واشنطن، فإن التكامل الاقتصادي العميق – من سلاسل التوريد إلى تبادل المواهب – يجعل فك الارتباط الكامل أمرًا غير عملي. هذا الواقع يزيد من حدة التنافس التكنولوجي، حيث تسعى كل من الولايات المتحدة والصين لتحقيق التفوق في المجالات الاستراتيجية دون التضحية بالفوائد الاقتصادية للتعاون.

سباق الذكاء الاصطناعي

يُعتبر الذكاء الاصطناعي أحد أهم ميادين هذا الصراع، حيث يُمكن للدولة التي تحقق تقدمًا كبيرًا في تطوير أنظمة ذكاء اصطناعي متقدمة أن تهيمن على الاقتصاد العالمي والمشهد العسكري.

كما يُحذر المحلل سام أشوورث-هايز، فإن الوصول إلى أنظمة ذكاء اصطناعي قوية بما يكفي قد يؤدي إلى “اضطراب اقتصادي هائل”، مما يمنح الدولة الرائدة ميزة تنافسية دائمة. تشمل التطبيقات المحتملة للذكاء الاصطناعي في المجال العسكري:

– الأسلحة ذاتية التشغيل: مثل الطائرات بدون طيار (مثل Harop الإسرائيلية) التي تُنفذ مهام هجومية دون تدخل بشري بناءً على معايير مبرمجة مسبقًا. الصين، إلى جانب دول مثل روسيا وإسرائيل، تُكثف جهودها لتطوير أنظمة مماثلة.

– الأسراب الذكية: في يونيو 2017، نجحت الصين في اختبار سرب مكون من 119 طائرة بدون طيار، مما يُظهر تقدمها في “ذكاء الأسراب”، وهو سلوك تعاوني مستقل بين الروبوتات يُمكن أن يُستخدم لاستهداف منصات عسكرية مثل حاملات الطائرات.

– الحرب السيبرانية: يُعزز الذكاء الاصطناعي قدرات الهجمات السيبرانية من خلال تحديد الأهداف بدقة وإخفاء هوية المهاجمين، بينما يُحسّن الدفاع السيبراني من خلال مراقبة الشبكات واكتشاف التهديدات بسرعة.

تستثمر الصين بقوة في الذكاء الاصطناعي، حيث وضعت خارطة طريق في 2017 تهدف إلى خلق صناعة ذكاء اصطناعي بقيمة 150 مليار دولار بحلول 2030.

كما تُنتج الصين عددًا كبيرًا من براءات الاختراع وتتفوق في مجالات مثل التعرف على الكلام (كما فعلت شركة بايدو في 2015).

في المقابل، تُركز الولايات المتحدة على تصميم الخوارزميات وجذب المواهب العالمية، لكنها تواجه تحديات في زيادة التمويل الحكومي مقارنة بالصين.

 سباق الحوسبة الكمومية

تُشكل الحوسبة الكمومية ميدانًا آخر للتنافس، حيث تُهدد قدرتها على كسر معايير التشفير الحالية بتعريض البيانات المصرفية والأسرار العسكرية للخطر.

يُحذر المسؤولون الأمريكيون من استراتيجية الصين المعروفة بـ”احصد الآن، فك التشفير لاحقًا”، حيث تُخزن بكين البيانات المشفرة لاستخدامها عندما تصبح الحوسبة الكمومية ناضجة.

– الاستثمارات: خصصت الصين ما لا يقل عن 15 مليار دولار لأبحاث الحوسبة الكمومية، مقارنة بـ3.8 مليار دولار من الولايات المتحدة، رغم أن الاستثمارات الخاصة الأمريكية تُقلص الفجوة.

– المركزية الصينية: تُعيد بكين توجيه أبحاث الكم من القطاع الخاص إلى المؤسسات الحكومية، مما يُظهر نيتها في تسريع التقدم وتأمين السيطرة على الابتكارات.

تُعزز الحوسبة الكمومية قدرات الذكاء الاصطناعي من خلال معالجة كميات هائلة من البيانات بسرعة، مما يجعلها حاسمة في تطوير أنظمة عسكرية متقدمة وتعزيز الأمن السيبراني.

التهديدات السيبرانية وغير المتكافئة

تُركز الصين على استراتيجيات غير تقليدية تهدف إلى شل هياكل القيادة والتحكم لدى الخصوم دون الحاجة إلى مواجهة عسكرية مباشرة.

يرى جيش التحرير الشعبي الصيني أن الحروب المستقبلية ستكون “مواجهات بين أنظمة عملياتية متعارضة”، مع التركيز على:

– تعطيل البنية التحتية الحيوية: مثل شبكات الاتصالات والطاقة، كما أظهرت الهجمات السيبرانية الأخيرة على قواعد أمريكية في غوام.

– برامج تشفير كفؤة: يُحذر أشوورث-هايز من قدرة الصين على تطوير برامج ذكاء اصطناعي قادرة على تنفيذ هجمات سيبرانية مستمرة ودقيقة، مما يمنحها ميزة هجومية.

أكد مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي السابق كريستوفر راي أن الصين تهدف إلى “إحداث دمار فعلي” في البنية التحتية الأمريكية، مما يُبرز التهديدات غير المتكافئة التي تُشكلها قدراتها السيبرانية.

فجوة المواهب: نقطة ضعف أمريكا

تُشكل الاعتمادية على المواهب الصينية في شركات الذكاء الاصطناعي الأمريكية تحديًا كبيرًا. تستغل الصين الروابط العرقية والوطنية لتجنيد الباحثين، مما يُعزز تدفق المعلومات لصالحها

– استراتيجية الصين: تعتمد بكين على “الاستهداف العرقي” بدلاً من الإكراه، مستغلة الروابط العائلية والثقافية لجذب العلماء الصينيين في الخارج.

– تحديات أمريكا: شركات مثل OpenAI تُشدد إجراءات الأمن الداخلي، لكن هذا قد يُبطئ الابتكار ويُعيق جذب المواهب.

يُحذر أشوورث-هايز من أن تدفق المعلومات باتجاه الصين قد يُقوض التفوق التكنولوجي الأمريكي إذا لم تُعالج فجوة المواهب.

 التداعيات الأمنية والقانونية

يُثير سباق التسلح بالذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية مخاوف أخلاقية وقانونية، خاصة في ظل غياب قوانين دولية ملزمة. في 2016، شككت الصين في كفاية القانون الدولي لتنظيم الأسلحة ذاتية التشغيل، وهي أول عضو دائم في مجلس الأمن تطرح هذه القضية.

في 2019، اتفقت 98 دولة، بما في ذلك الصين والولايات المتحدة، على مبادئ توجيهية غير ملزمة تُلزم بإبقاء الإنسان مسؤولاً عن قرارات الأسلحة الذاتية، لكن التحديات في التحقق من الامتثال تُعيق إبرام معاهدات ملزمة.

تُحذر ألمانيا وغيرها من أن هذا السباق قد يخرج عن السيطرة بدون معايير دولية، مما يُهدد الأمن العالمي بحروب عرضية أو تصعيد غير متوقع.

يُعيد سباق التسلح التكنولوجي بين الصين والولايات المتحدة تشكيل قواعد القوة العالمية. من يسيطر على الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية قد يُحدد مسار الاقتصاد والأمن العالمي في القرن الحادي والعشرين.

ومع ذلك، فإن الروابط التجارية العميقة، تشابك المواهب، وغياب التنظيم الدولي يجعل هذا الصراع معقدًا وخطيرًا.

تواجه أمريكا تحديًا مزدوجًا: تعزيز الابتكار المحلي وسد فجوة المواهب مع حماية أسرارها التكنولوجية. في المقابل، تُراهن الصين على استثمارات ضخمة ومركزية الجهود لتحقيق التفوق.

“الفوز في هذا السباق ليس مجرد مسألة اقتصادية، بل أمن قومي”، مما يجعل النتيجة حاسمة لمستقبل النظام العالمي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى