أخبار دولية

اكتشاف قاعدة نووية أمريكية سرية تحت جليد غرينلاند

كشفت وكالة الفضاء الأمريكية “ناسا” عن اكتشاف مذهل أثناء تجربة نظام رادار متطور فوق شمال غرينلاند.

فقد رصد العلماء، عن طريق الصدفة، بقايا قاعدة عسكرية أمريكية سرية تعود إلى حقبة الحرب الباردة، كانت جزءًا من مشروع طموح وسري للغاية أطلق عليه اسم “آيس وورم”.

هذا المشروع، الذي وضعه البنتاغون، استهدف إنشاء شبكة من مواقع إطلاق الصواريخ النووية تحت الغطاء الجليدي في القطب الشمالي، لتكون في متناول الاتحاد السوفيتي السابق.

يأتي هذا الكشف في وقت تتزايد فيه التوترات السياسية حول غرينلاند، التي تُعدّ ذات أهمية استراتيجية واقتصادية كبيرة، خاصة مع اهتمام الولايات المتحدة المتجدد بالسيطرة على الجزيرة.

 غرينلاند: هدف استراتيجي أمريكي

لطالما كانت غرينلاند، التي تتمتع بالحكم الذاتي تحت السيادة الدنماركية، هدفًا استراتيجيًا للولايات المتحدة بسبب موقعها الجغرافي القريب من روسيا ومواردها الطبيعية الغنية.

ومع عودة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى السلطة، عزز اهتمامه بالاستحواذ على الجزيرة، بل وأشار إلى إمكانية استخدام القوة العسكرية أو الضغوط الاقتصادية لتحقيق هذا الهدف.

ورغم رفض الدنمارك المتكرر لبيع غرينلاند، حافظت واشنطن على وجود عسكري في الجزيرة منذ الحرب العالمية الثانية، من خلال إنشاء قواعد ومنشآت عسكرية، العديد منها أصبح مهجورًا بعد انتهاء الحرب الباردة.

“معسكر سينشري”: مدينة تحت الجليد

بدأت القصة في عام 1959، عندما شرع فيلق مهندسي الجيش الأمريكي في بناء منشأة سرية أطلق عليها اسم “معسكر سينشري”، على بعد حوالي 150 ميلاً شرق قاعدة ثول الجوية (حاليًا قاعدة بيتوفيك الفضائية)، وهي مركز دفاعي رئيسي في القطب الشمالي.

كلف المشروع حوالي 8 ملايين دولار، وصُمم ليكون قاعدة عسكرية مدفونة تحت الجليد، تتحمل الظروف القاسية التي تشمل رياحًا تصل سرعتها إلى 125 ميلاً في الساعة ودرجات حرارة تنخفض إلى -70 درجة فهرنهايت.

تم إنشاء المعسكر بحفر 21 نفقًا تحت الأرض، بإجمالي طول 9800 قدم، مغطاة بأقواس فولاذية وطبقات من الثلج لضمان الاستقرار.

كان أبرز هذه الأنفاق “الشارع الرئيسي”، وهو نفق بعرض 26 قدمًا وطول 1000 قدم، شكّل العمود الفقري للمنشأة. استوعب المعسكر ما يصل إلى 200 فرد، وتضمن مرافق حديثة مثل مطبخ، كافتيريا، عيادة طبية، غرف نوم، مركز اتصالات، قاعة ترفيه، كنيسة صغيرة، وحتى صالون حلاقة.

كما حفر المهندسون بئرًا لتوفير 10,000 جالون من المياه العذبة يوميًا، ومدّوا أنابيب معزولة لتوزيع المياه والكهرباء في جميع أنحاء القاعدة.

 الطاقة النووية: مفاعل PM-2A

عمل “معسكر سينشري” بمفاعل نووي محمول يُعرف بـ PM-2A، وهو الأول من نوعه، بوزن 400 طن. صُمم المفاعل ليتم نقله عبر الجليد لمسافة تزيد عن 130 ميلاً، مع الحرص الشديد لتجنب تلفه بسبب البرودة الشديدة التي تجعل المعادن هشة.

استمر المفاعل في العمل لمدة ثلاث سنوات، من 1960 إلى 1963، قبل أن يتم استبداله بمولدات ديزل وإزالته من المنشأة.

 مشروع “آيس وورم”: خطة نووية طموحة

على الرغم من الترويج لـ”معسكر سينشري” كمنشأة بحثية لدراسة الغطاء الجليدي وحركة الأنهار الجليدية، كانت الحقيقة أكثر تعقيدًا.

كان المعسكر غطاءً لمشروع “آيس وورم”، وهو خطة سرية لتخزين ونشر 600 صاروخ باليستي نووي من طراز “آيسمان”، وهي نسخة معدلة من صواريخ مينيتمان الأمريكية، بمدى يصل إلى 3300 ميل.

كان الهدف إنشاء شبكة أنفاق تمتد على مساحة 52,000 ميل مربع، تضم 60 مركزًا للتحكم في إطلاق الصواريخ، مما يتيح ضرب أهداف في الاتحاد السوفيتي بسرعة وفعالية.

كما كان المشروع يهدف إلى تعزيز التحالفات داخل حلف الناتو، خاصة مع فرنسا، من خلال مشاركة الأسلحة النووية، مع التحايل على سياسة الدنمارك المناهضة للأسلحة النووية.

لكن المشروع واجه عقبات كبيرة، منها تحديات تقنية في تعديل الصواريخ لتحمل البرودة الشديدة، وصعوبات بيروقراطية، وعدم استقرار الغطاء الجليدي الذي بدأ يتشوه ويهدد بانهيار الأنفاق.

 إلغاء المشروع والتخلي عن القاعدة

بعد ثلاث سنوات فقط من البناء، في عام 1963، أدرك الجيش الأمريكي أن استمرار المشروع يشكل مخاطر كبيرة، خاصة مع احتمال انهيار الأنفاق وفقدان مئات الصواريخ النووية.

تم إلغاء “آيس وورم”، واستمر “معسكر سينشري” في العمل بشكل محدود حتى إغلاقه النهائي في عام 1967. عند التخلي عن القاعدة، لم يُجرِ الجيش عمليات تنظيف واسعة، مفترضًا أن الثلوج المتراكمة ستدفن البنية التحتية والنفايات إلى الأبد.

 التهديد البيئي: نفايات مدفونة تهدد المستقبل

كشفت دراسة أجريت عام 2016 عن حجم النفايات المهجورة في “معسكر سينشري”، والتي تشمل حوالي 53,000 جالون من وقود الديزل، 63,000 جالون من مياه الصرف الصحي، وكميات غير معروفة من المبردات المشعة ومركبات ثنائي الفينيل متعدد الكلور (PCBs)، وهي مواد كيميائية شديدة السمية. تغطي هذه النفايات مساحة تقدر بحوالي 136 فدانًا.

مع تسارع ذوبان الجليد في القطب الشمالي بسبب تغير المناخ، يحذر العلماء من أن هذه النفايات قد تظهر على السطح بحلول عام 2090 أو حتى قبل ذلك، مما يشكل خطرًا كبيرًا على النظم البيئية المحيطة وصحة الإنسان.

 التحديات السياسية والمسؤولية عن التنظيف

يثير اكتشاف “معسكر سينشري” تساؤلات حول المسؤولية عن تنظيف النفايات البيولوجية والكيميائية والإشعاعية.

لا يوجد اتفاق واضح بين الولايات المتحدة والدنمارك وغرينلاند حول هذه المسألة، مما قد يؤدي إلى توترات دبلوماسية.

في عام 2018، وقّعت غرينلاند والدنمارك اتفاقية بقيمة 29 مليون دولار لتنظيف بعض القواعد العسكرية الأمريكية المهجورة، لكن الجهود توقفت في 2021 بسبب جائحة كوفيد-19. يبقى السؤال مفتوحًا: من سيتحمل تكلفة ومسؤولية معالجة هذا الإرث البيئي الخطير؟

 اكتشاف ناسا: نظرة جديدة على التاريخ

جاء اكتشاف “معسكر سينشري” في أبريل 2024، أثناء تحليق طائرة تابعة لناسا مزودة برادار متقدم فوق غرينلاند. كشفت الصور الرادارية عن تفاصيل غير مسبوقة للأنفاق والبنية التحتية المدفونة تحت 100 قدم من الجليد، مما أثار اهتمام العلماء والمؤرخين. ورغم أن القاعدة ظلت سرية حتى كشفها في التسعينيات، فإن هذا الاكتشاف يعيد فتح النقاش حول الإرث العسكري والبيئي للحرب الباردة.

 إرث معسكر سينشري

يُعد “معسكر سينشري” رمزًا للطموح العسكري الأمريكي خلال الحرب الباردة، ولكنه أيضًا تذكير بالتحديات البيئية التي خلّفتها تلك الفترة.

بينما تواصل ناسا دراساتها لمراقبة ذوبان الجليد في غرينلاند، يظل “مشروع آيس وورم” وآثاره درسًا في التداعيات طويلة الأمد للقرارات الاستراتيجية، ويسلط الضوء على الحاجة إلى تعاون دولي لمواجهة التهديدات البيئية الناشئة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى