أوروبا تواجه لحظة حاسمة أمام خطة ترامب و بوتين
في تطور غير مسبوق منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، وجدت أوروبا نفسها أمام صدمة سياسية كبرى بعدما تسربت ملامح خطة أمريكية روسية من 28 بندًا لإنهاء الحرب، قيل إن واشنطن أعدّتها دون التشاور مع الحلفاء الأوروبيين.
وبينما يرى الأوروبيون في الخطة “استسلامًا مقنّعًا” وتخليًا عن أوكرانيا، تتعمّق المخاوف من تغيّر جذري في الموقف الأمريكي يعيد رسم خريطة الأمن في القارة.
تحذيرات أوروبية صارخة من “إمبريالية روسية لم تسقط بعد”
لطالما رأت كاجا كالاس، رئيسة الوزراء الإستونية، أن روسيا لم تتصالح يومًا مع إرثها السوفييتي، مؤكدة أن “مكافأة العدوان ستجلب المزيد من الحروب”.
وتحذيرها تردد صداه هذا الأسبوع في تصريحات وزير الخارجية الألماني يوهان فاديبول، الذي كشف أن أجهزة بلاده الاستخباراتية تحذر من استعدادات روسية قد تتيح شن حرب على الناتو بحلول عام 2029، مشيرًا إلى أن بوتين “يجند فرقة عسكرية جديدة كل شهر”.
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ذهب أبعد بوصف روسيا بأنها “قوة مزعزعة دائمة… وغول يقف على أبوابنا”، مؤكدًا أن أوروبا تواجه تهديدًا وجوديًا.
اقرأ أيضاً:روسيا تختبر أول “طيور مسيرة” مزودة بشرائح دماغية لرصد المهام السرية
تعاطف أميركي مع موسكو… وصدمة أوروبية من البوصلة المنحرفة
في المقابل، ينغمس التيار الانعزالي داخل الولايات المتحدة بقيادة شخصيات مثل ستيف ويتكوف، المقرب من ترامب في خطاب يهون من الخطر الروسي ويعامل بوتين بوصفه “قائدًا عاديًا”.
ويتكوف الذي اعترف بأنه “لا يعرف الكثير عن التاريخ” بعد بداياته مع وثائقيات “نتفليكس”، يرى أن موسكو ستتوقف عن طموحاتها التوسعية إذا مُنحت أربع مناطق أوكرانية.
هذا الخطاب وجد صداه جزئيًا لدى ترامب ونائبه جي دي فانس، اللذين يسخران من فكرة أن لبوتين نوايا توسعية.
ومع كل محاولة أوروبية لإقناع واشنطن بخطورة الموقف، كانت البوصلة تعود إلى نقطة واحدة: أوكرانيا يجب أن تقبل الخسارة.
خطة الـ28 بندًا: “سلام مفروض” يثير الذعر الأوروبي
تسريب الخطة الأمريكية الروسية شكل لحظة مفصلية حيث يرى القادة الأوروبيون الذين اطلعوا عليها وصفوها بأنها مكافأة لروسيا على الغزو، وتراجعًا للدور الأوروبي لصالح “وصاية مزدوجة”.
الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند رأى فيها “تاريخًا يُكتب بطريقة مأساوية”، بينما شبّهها الخبير الأوروبي فرانسوا هيسبورغ باتفاقية الهدنة عام 1940 بين فرنسا وألمانيا النازية، واعتبرها “سلامًا مفروضًا بالشروط الروسية”.
الانقسام داخل الإدارة الأمريكية… ونقطة الانفجار
تعمق القلق الأوروبي بعد اتضاح الانقسام داخل إدارة ترامب، فبينما مضى جيه دي فانس نائب الرئيس ترامب في الدفاع عن الخطاب الودي تجاه موسكو، اتخذ وزير الخارجية بالوكالة ماركو روبيو موقفًا أكثر صرامة، وفرض عقوبات على “روزنفت” و”لوك أويل”.
هذا الانقسام أعاد بعض التوازن في الكونجرس، لكنه كشف هشاشة الموقف الأمريكي، وترك الأوروبيين أمام واقع جديد لم يعد التحالف الأطلسي مضمونًا كما في السابق.
رهانات متصدعة داخل واشنطن تعمّق ارتباك الحلفاء
لم تقتصر أزمة الخطة الأمريكية الروسية على المفاجأة التي تلقتها أوروبا، بل كشفت أيضًا عمق التباين داخل دوائر صنع القرار في واشنطن نفسها.
فبينما اندفع فريق مؤيد للتقارب مع موسكو يمثله جيه دي فانس وتيار الانعزاليين نحو رؤية تعتبر أوكرانيا عبئًا استراتيجيا، ظهر جناح آخر أكثر حذرًا بقيادة ماركو روبيو الذي اتخذ خطوات عقابية ضد شركات روسية كبرى، في إشارة إلى رفض التساهل مع الكرملين.
هذا الافتراق أعاد إلى الواجهة سؤالًا جوهريًا لدى الأوروبيين.. أيّ صوت يمثل حقيقة الموقف الأمريكي؟ ومع مزيج من التضارب والضبابية، بات القادة الأوروبيون يتعاملون مع واشنطن بمنطق “الحسابات المتغيرة”، بعدما تزعزعت الثقة في صلابة المظلة الأطلسية التي اعتادتها القارة لعقود.
مستشار السياسة في كييف يوضح: الحرب بعيدة عن نهايتها وخطة السلام غير واقعية في نظر موسكو
وفي سياق متصل، أكد الدكتور إيفان أوس، مستشار السياسة الخارجية في المعهد الوطني للدراسات الاستراتيجية بأوكرانيا والمحلل السياسي، في تصريحات خاصة لـ”داي نيوز”، أن الحرب لا تزال بعيدة تمامًا عن أي نهاية قريبة، مشددًا على أن من الخطأ الافتراض بأن موسكو قد تتجه نحو تسوية في الوقت الراهن.

وقال أوس إن روسيا ما زالت تسعى لتحقيق انتصار كامل، وترى أن أي حل سياسي لا يضمن لها المكاسب التي تطمح إليها، سواء على مستوى السيطرة الجغرافية أو النفوذ السياسي، مضيفًا أن “أوكرانيا باقية، وهذا بحد ذاته أمر غير مقبول بالنسبة لروسيا، تمامًا كما أن اختفاء أوكرانيا أمر غير وارد بالنسبة للأوكرانيين أنفسهم”.
وأوضح أن الحديث المتزايد عن خطة السلام التي نوقشت بين الولايات المتحدة وأوكرانيا “لا يعكس واقعية سياسية”، مؤكدًا أن الخطة غير مقبولة بالنسبة لروسيا، التي بحسب تعبيره “تتعامل معها فقط كوسيلة لانتزاع تنازلات إضافية”.
وفي المقابل، ترى واشنطن أن البنود المطروحة لا يمكن لأوكرانيا القبول بها، فيما تحتاج كييف إلى مناقشتها كإطار أولي قابل للتعديل والتحسين، لا كصيغة نهائية.
وأضاف أوس، أوكرانيا تعمل مع الجانب الأميركي على تطوير مقترحات الخطة، لكننا غير مستعدين للتفريط بأرضنا، خصوصًا منطقة دونباس التي تمثل جوهر الصراع.
وأشار إلى أن المنطق الروسي يقوم على الاستعداد للتضحية، رغم الخسائر البشرية الضخمة والتي تجاوزت بحسب تقديره 150 ألف جندي، ورغم أن الحرب طالت لأكثر من عامين دون أن تحقق موسكو نصراً سريعاً كما كانت تأمل.
وشدد على أن أي مفاوضات في هذا التوقيت “لن تصل إلى نتيجة”، لأن روسيا تسعى لفرض شروط المنتصر، بينما ترفض أوكرانيا أي حل يقوم على الاستسلام أو التنازل الإقليمي.
وختم أوس تصريحاته بالإشارة إلى الضغوط الاقتصادية المتزايدة داخل روسيا، قائلاً إن العديد من الخبراء ينتظرون ما سيحدث بحلول ديسمبر، في ظل “عام مالي بالغ الصعوبة على موسكو”، وهو ما قد ينعكس بحسب قوله على مسار الحرب خلال الفترة المقبلة.
من جانبه، يرى الباحث والمحلل السياسي أحمد حسني ،أن المشهد الراهن يوضح أن كل الحديث عن قرب الوصول إلى تسوية ليس سوى “وهم سياسي”، لأن الطرفين لا يجدان حتى الآن مبررًا حقيقيًا للتراجع أو التنازل.
وأوضح حسني في تصريحات لـ”داي نيوز” أن موسكو تواصل التعامل مع الحرب باعتبارها معركة وجودية تسعى فيها لتحقيق مكاسب واضحة تُترجم على الأرض، وهو ما يجعل أي مقترحات للسلام بما فيها الخطة الأمريكية الأخيرة غير قابلة للتطبيق من وجهة النظر الروسية.
وأضاف أن أوكرانيا من جانبها تدرك أن القبول بأي صيغة تتضمن تنازلات سيعني عمليًا الاعتراف بانتصار روسيا، وهو ما لا يمكن للقيادة الأوكرانية تحمله سياسيًا أو شعبيًا.
وأشار حسني إلى أن الخطط الدبلوماسية المتداولة “لن تغيّر الكثير”، طالما أن الكرملين يعتقد أنه قادر على إحراز تقدم ميداني، وطالما أن كييف تراهن على استمرار الدعم الغربي ورفض التفريط في دونباس أو أي جزء من أراضيها.
واعتبر أن النزاع وفق المعطيات الحالية مرشح للاستمرار، خاصة مع الضغوط الاقتصادية المتصاعدة داخل روسيا التي قد تعيد تشكيل موازين القوى لاحقًا، لكنها لا تعني بالضرورة اقتراب نهاية الحرب في المدى القصير.



