بعد غياب واشنطن عن قمة العشرين.. هل انتهى عهد الهيمنة الأمريكية؟

كتبت: هدير البحيري
تشكل قمة مجموعة العشرين في جوهانسبرج منعطفًا مهمًا في السياسة الدولية. ليس لأنها عقدت لأول مرة في إفريقيا فحسب، بل لأنها كشفت عن تحولات ملموسة في ديناميكيات القوى الكبرى.
غياب الولايات المتحدة عن القمة لم يكن مجرد غياب رمزي، بل اختبار حقيقي لقدرة الدول الأخرى على ملء الفراغ وفرض أولوياتها في مجالات مثل التنمية المستدامة، التمويل المناخي، وإعادة هيكلة الديون.
غياب الولايات المتحدة: فرصة أم تحدٍ؟
اختتمت القمة، الأحد، في جوهانسبرج وسط غياب بارز للولايات المتحدة، الدولة التي يفترض أن تتولى الرئاسة القادمة.
واتهم الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، حكومة جنوب أفريقيا بـ”اضطهاد الأقلية البيضاء”، مما أدى إلى عدم حضور أي مسؤول أمريكي رفيع، باستثناء تمثيل رمزي في مراسم تسليم الرئاسة الدورية.
هذا الغياب فتح المجال لدول أخرى لإعادة تحديد أولوياتها دون قيود أمريكية، خصوصًا في الملفات المتعلقة بالمناخ والتحول الاقتصادي والتنمية المستدامة.
وقد أثار غياب واشنطن تساؤلات حول فعالية القرارات التي تصدر عن المجموعة، خصوصًا في مجالات التمويل المناخي، نقل التكنولوجيا النظيفة، وتقليل الانبعاثات عالميًا.
جنوب أفريقيا: قيادة القمة وفق أولويات الجنوب
سعت جنوب أفريقيا، بصفتها الدولة المضيفة، إلى استثمار رئاستها للقمة لتسليط الضوء على قضايا دول الجنوب وإعادة ترتيب أولويات مجموعة العشرين بما يخدم التنمية المستدامة.
وركزت رئاسة جنوب أفريقيا على أربعة محاور رئيسية. أولها مضاعفة التمويل لمواجهة الكوارث المناخية، في محاولة لتخفيف آثار التغير المناخي على الدول النامية والاقتصادات الضعيفة.
المحور الثاني تمثل في خفض أعباء الديون على الاقتصادات الناشئة، بما يسمح لهذه الدول بتوجيه مواردها نحو التنمية الداخلية بدل خدمة الالتزامات المالية الخارجية.
أما المحور الثالث، فركز على تسريع التحول نحو الطاقة النظيفة، لتعزيز الاستدامة البيئية وتقليل الاعتماد على مصادر الطاقة التقليدية الملوثة.
وأخيرًا، سعت جنوب أفريقيا لضمان استفادة الدول الأفريقية من مواردها المعدنية الحيوية، لتعزيز استقلال القارة اقتصاديًا وتقليص الهيمنة الأجنبية.
ولقي هذا النهج التنموي تباينًا واضحًا مع المواقف الأمريكية. فقد اعتبرت واشنطن تركيز القمة على قضايا المناخ والتنمية بمثابة “انحراف عن مصالح دافعي الضرائب الأمريكيين”، ما يبرز الفارق بين أولويات القوى الكبرى والدول المضيفة للقمة.
لم يقتصر الغياب في قمة جوهانسبرج على الولايات المتحدة، بل شمل أيضًا الرئيس الصيني شي جين بينج، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وعددًا من الزعماء الآخرين لأسباب داخلية وأمنية.
ومع ذلك، حضر ممثلون عن 42 دولة ومؤسسة دولية، ما أضفى على القمة طابعًا دبلوماسيًا معقدًا واعتُبر نجاحًا نسبيًا لرئاسة جنوب أفريقيا.
فراغ القيادة الأمريكية.. القوى الصاعدة تعزز حضورها
واستغل الاتحاد الأوروبي، الصين، الهند والبرازيل الفراغ الأمريكي لإعادة توجيه جدول أعمال المجموعة، فقد تبنى الاتحاد الأوروبي موقفًا أكثر جرأة في دعم التمويل المناخي، بينما قدمت الصين نفسها كحليف للدول النامية لتعزيز نفوذها، ودعمت الهند والبرازيل الإصلاحات المالية لصالح الاقتصادات الصاعدة.
ورغم هذه التحديات، نجحت رئاسة جنوب أفريقيا في صياغة مسودة إعلان ختامي التزم بالمناخ والطاقة المتجددة،
واعتبرت واشنطن هذه الخطوة “تصرفًا مخجلًا”، لكنها تعكس في الوقت ذاته تحولًا أعمق في السياسة الخارجية الأمريكية وابتعادها عن الالتزامات التقليدية للنظام الدولي.
غياب أمريكا يضعف السياسات الدولية
وقالت الباحثة في العلاقات الدولية ورئيسة مركز “أون ريسيرش” للبحوث العلمية والاستشارات، الدكتورة شيماء سمير، في حديث خاص لـ”داي نيوز” إن غياب الولايات المتحدة عن قمة العشرين يمثل تحديًا كبيرًا لفعالية القرارات المتعلقة بالمناخ والتنمية الاقتصادية.
وأوضحت سمير أن هذا الغياب في مجال المناخ يؤدي إلى إضعاف التزامات تمويل المناخ للدول النامية، ويقلل من فعالية آليات نقل التكنولوجيا النظيفة وخفض الانبعاثات عالميًا.
وأضافت سمير أن الفراغ في القيادة العالمية لمكافحة التغير المناخي يبطئ تنفيذ اتفاق باريس للمناخ وأهداف التنمية المستدامة.
وأشارت سمير إلى أن الغياب الأمريكي يحد من قدرة مجموعة العشرين على تنسيق السياسات النقدية والمالية خلال الأزمات الاقتصادية، ويؤثر سلبًا على معالجة قضايا المديونية العالمية، خاصة للدول منخفضة الدخل، ويضعف جهود إصلاح النظام الضريبي الدولي.
سياسة “أمريكا أولاً”.. أولويات واشنطن تتغير
واعتبرت سمير أن غياب الرئيس الأمريكي ترامب يرسل رسائل واضحة للدول الأخرى، موضحة أنها تتمثل في توجه الولايات المتحدة نحو السياسة الانعزالية تحت شعار “أمريكا أولاً”، وتراجع الاهتمام بالحوكمة العالمية والتعاون متعدد الأطراف.
وأضافت أن هذا التوجه يعكس تغيرًا في أولويات السياسة الخارجية الأمريكية لصالح القضايا الداخلية على حساب الدور الدولي، ويضعف المصداقية الأمريكية كشريك دولي موثوق به، ويقلل من قدرة واشنطن على تشكيل الأجندة العالمية وفق مصالحها، ويخلق شكوكًا حول استمرارية الالتزامات الأمريكية على المدى الطويل.
القوى الصاعدة تتصدر المشهد.. نفوذ جديد في السياسة العالمية
وتابعت الباحثة أن الصين تسعى لتعزيز مبادراتها مثل “الحزام والطريق” كبديل للنماذج التنموية التقليدية، وتعمل على توسيع نفوذها في المؤسسات المالية الدولية، وتقود تحالفات جديدة في مجال الطاقة المتجددة والتكنولوجيا النظيفة.
وأضافت سمير أن الهند تعزز دورها كصوت للدول النامية في المحافل الدولية، وتوسع شراكاتها الإقليمية والدولية في مجالات التجارة والاستثمار، وتقود المبادرات المتعلقة بالطاقة الشمسية والزراعة المستدامة.
وفي الوقت نفسه، يسعى الاتحاد الأوروبي لتأكيد دوره كمدافع عن النظام الدولي القائم على القواعد، ويقود التحالفات الدولية لمكافحة التغير المناخي، ويعزز موقع اليورو كعملة بديلة في المعاملات الدولية.
تحول نحو تعددية قطبية وتحالفات جديدة
وأوضحت سمير أن هذه التطورات تؤدي إلى تحول نحو تعددية قطبية أكثر وضوحًا وإعادة تشكيل التحالفات الدولية بعيدًا عن الهيمنة الأمريكية التقليدية.
وعن العلاقات الثنائية، قالت سمير إن قرار المقاطعة قد يؤثر على العلاقات الاقتصادية والسياسية بين الولايات المتحدة وجنوب أفريقيا مستقبلًا.
وأوضحت أن ذلك قد يؤدي إلى تراجع تدفق الاستثمارات الأمريكية إلى جنوب أفريقيا، مما يخلق فرصًا لدول أخرى لتعزيز وجودها الاقتصادي في السوق الجنوب أفريقي، كما قد يؤثر سلبًا على العلاقات التجارية الثنائية واتفاقيات الاستثمار.
وأضافت أنه على الصعيد السياسي، يضعف هذا القرار الثقة الاستراتيجية بين البلدين ويحد من التعاون في القضايا الإقليمية الأفريقية، وقد يدفع جنوب أفريقيا لتقوية علاقاتها مع شركاء دوليين آخرين مثل الصين والاتحاد الأوروبي.
تحديات مجموعة العشرين بعد غياب واشنطن
وأكدت الباحثة أن مجموعة العشرين تواجه تحديات جدية حول فعاليتها كمنصة لتنسيق السياسات الدولية، مشيرة إلى أن غياب الولايات المتحدة يقلل من شمولية القرارات وقابليتها للتنفيذ، كما أن تزايد التنافس الجيوسياسي يحد من القدرة على تحقيق توافق في الآراء.
ومع ذلك، أكدت أن المجموعة تبقى منصة مهمة للحوار والتنسيق، حيث يمكنها الاستمرار بإجماع الأعضاء المتبقين، وتطوير آليات عمل بديلة تعوض غياب الولايات المتحدة.
وأضافت أن الفترة القادمة قد تشهد تحول المجموعة إلى منصة أكثر مرونة مع تحالفات متغيرة حسب القضايا، أو صعود مجموعات أصغر بديلة، مع استمرار دورها وإن بفعالية محدودة في ظل الانقسامات الكبرى.



