بوتن يضغط على ترامب.. سلام مفروض أم حرب بلا نهاية؟
مع اشتداد النيران على الجبهات وتفاقم الاضطرابات داخل كييف، تدخل الحرب الأوكرانية مرحلة أشدّ تعقيدًا، بعدما دفعت واشنطن نحو خطة سلام مثيرة للجدل تُربك المشهد الدولي وتفجّر خلافًا حادًا مع العواصم الأوروبية.
وبينما ترفضها أوكرانيا بوصفها مساسًا بسيادتها وتهديدًا لمستقبلها السياسي، تسعى موسكو إلى استثمار اللحظة لفرض وقائع جديدة على الأرض وإعادة رسم ميزان القوى في المنطقة، وفي قلب هذا الاشتباك السياسي والعسكري، تجد كييف نفسها محاصرة بين ضغوط أميركية متعجلة لإنهاء الحرب وطموحات روسية لا تخفي رغبتها في تغيير قواعد اللعبة بالكامل.
النفوذ الروسي من ساحات الحرب إلى البيت الأبيض
توظف موسكو كل أدواتها للتأثير في مسار الحرب، محاوِلة فرض شروط النقاش عبر تحركات سياسية مدروسة، فبوتين الذي يدرك أن النصر الشامل غير واقعي في المدى المنظور، يسعى إلى تثبيت خطوط القتال الحالية باعتبارها “نصرًا مؤقتًا” يسمح لروسيا بإعادة تنظيم قواتها، هذا النهج ينعكس في خطة السلام ذات الـ28 بندًا، التي تدعو كييف إلى التنازل عن أجزاء واسعة من أراضيها وتقليص حجم جيشها ووقف السعي للانضمام إلى الناتو.
ورغم أن واشنطن روّجت لبعض عناصر هذه الخطة عبر قنوات سرية، فإنها تكرّر عمليًا مقترحات سابقة كانت منحازة لموسكو. وقد رفض زيلينسكي هذه البنود فور تسريبها، معتبرًا أنها تهدف إلى فرض استسلام تدريجي لا يراعي ميزان القوى الحقيقي ولا إرادة الشعب الأوكراني.
اقرأ أيضاً:خطة ترامب الجديدة للسلام في أوكرانيا: مقترح من 28 نقطة يثير جدلاً واسعاً
ضغوط أميركية تتصاعد في لحظة ضعف أوكراني
تزامنت التحركات الأميركية مع تراجع ميداني نسبي في عدة جبهات، أبرزها بوكروفسك، إلى جانب فضيحة فساد هزّت مؤسسات الدولة الأوكرانية وأدت إلى إقالة وزيرين.
وفي هذا التوقيت الحرج، بعثت واشنطن رسائل مباشرة إلى كييف تطالبها بقبول إطار سلام يتضمن تنازلات مؤلمة، مستغلة حالة الارتباك السياسي والعسكري.
ويشير مراقبون إلى أن إدارة ترامب تسعى، عبر هذه الضغوط، إلى إعادة صياغة دور الولايات المتحدة في الحرب، سواء لتحقيق تقدم دبلوماسي سريع أو لإعادة ترتيب أولوياتها في العلاقات مع روسيا وأوروبا. لكن هذا التوجه أثار قلقًا في العواصم الأوروبية، التي ترى أن أي تنازلات مبكرة ستقوّض الأمن الإقليمي وتمنح موسكو دفعة جديدة على حساب استقرار القارة.
موقف أوروبي صارم: لا للسلام على حساب كييف
جاءالاتحاد الأوروبي واضحًا في اجتماع بروكسل الأخير لا سلامًا يؤدي إلى استسلام أوكرانيا.
فالدول الأوروبية، التي تكبدت تكاليف سياسية واقتصادية وأمنية كبيرة منذ بداية الحرب، ترى أن أي اتفاق يجبر كييف على التخلي عن أراضٍ إضافية أو تقليص قوتها العسكرية سيعيد شبح الهيمنة الروسية على الحدود الشرقية للقارة.
وأكد وزير الخارجية الفرنسي أن “السلام الحقيقي هو سلام يحمي السيادة ويمنع العدوان، لا سلامًا يُفرض بالقوة”.
وتعبّر هذه التصريحات عن قناعة متزايدة في أوروبا بأن موسكو تسعى لتثبيت وضع مؤقت يتيح لها التجهيز لجولة جديدة من الحرب.
على الأرض، تتواصل الهجمات الروسية بوتيرة متصاعدة، إذ استهدفت ضربات ليلية مناطق سكنية في تيرنوبل وأسفرت عن عشرات القتلى والمفقودين، فضلًا عن انقطاع الكهرباء عن مئات الآلاف.
وفي الوقت ذاته، تواجه أوكرانيا ضغطًا عسكريًا كبيرًا مع اقتراب الروس من بوكروفسك، التي قد تشهد أول سقوط لمدينة رئيسية منذ عامين.
اقرأ أيضاً:إسرائيل تعترض على خطط واشنطن لتزويد السعودية بأسلحة متقدمة
ورغم النقص العددي في القوى القتالية الأوكرانية، فإن كييف تعتمد على حرب المسيّرات والابتكار التكتيكي لتعويض الفجوة،إلا أن الجيش الأوكراني يواجه أزمة حقيقية بسبب تراجع التجنيد وانتشار التهرّب من الخدمة، إلى جانب السماح لآلاف الشباب بمغادرة البلاد.
وفي المقابل، تستفيد روسيا من قدرة مالية مكنتها من رفع أجور الجنود ورفد جبهاتها بمقاتلين جدد، رغم التكاليف الاقتصادية الباهظة التي جعلت نحو 30% من ميزانيتها موجهًا للحرب.
تنازلات إقليمية وودّ لبوتين… ما الذي يريده ترامب فعلاً من حرب أوكرانيا؟
وفي سياق متصل، أكد السفير مسعود معلوف، الدبلوماسي السابق والخبير في الشؤون الأمركية، في تصريحات خاصة لـ”داي نيوز”، أنّه “لا بد من التوضيح منذ البداية بأن الرئيس دونالد ترامب لا يمتلك استراتيجية واضحة، لا في ما يتعلق بالحرب في أوكرانيا ولا في ملفات السياسة الخارجية الأخرى”. وقال إنّ ترامب يحرص دائماً على الظهور كأنه “محور العالم” و”الرئيس الذي يوقف الحروب”، مستشهداً بتصريحاته خلال المؤتمر السعودي الأميركي للاستثمار حين أعلن أنّه أنهى سبع حروب ويستحق جائزة نوبل للسلام.

وأوضح معلوف أنّ ترامب كان يتعامل مع ملف أوكرانيا باعتباره “قضية بسيطة يمكن حسمها بسرعة”، لكنه اكتشف لاحقاً أنّ الواقع أكثر تعقيداً مما كان يتصوّر. وذكّر بكيفية استقباله للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في مارس الماضي بعد تولّيه ولايته الثانية، حين “أهانه بشكل واضح في محاولة لإرضاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين”، على أمل أن ينسب لنفسه إنهاء الحرب الأوكرانيةالروسية.
وأضاف معلوف أنّ ترامب ذهب أبعد من ذلك عندما دعا الرئيس بوتين إلى ولاية ألاسكا وعقد معه اجتماعاً سعى خلاله إلى كسب وده. وقال: “كان ترامب يكرر دائماً أنّ على أوكرانيا تقديم تنازلات إقليمية، وألا تنضم إلى حلف شمال الأطلسي، وأن تقبل بالشروط الروسية”، وهي مطالب يعتبرها السفير السابق “غير قابلة للقبول إطلاقاً بالنسبة لأوكرانيا”.
وأشار الخبير الدبلوماسي إلى أنّ ترامب غيّر لهجته تجاه موسكو بعدما تبيّن له أنّ بوتين “غير مستعد لمنحه الانتصار السياسي الذي يبحث عنه”، ففرض عقوبات على شركتين روسيتين في قطاع النفط، وأعرب لاحقاً عن استيائه من الرئيس الروسي. ورغم ذلك، عاد ترامب ليطرح خطة جديدة “لم تتضح معالمها بعد” يُقال إنها تتألف من 28 بنداً وضعها مستشاره ستيف ويتكوف بالتنسيق مع مسؤولين روس.
اقرأ أيضاً:ساب تعرض طائرات الاستطلاع (جلوبال آي) على قطر والسعودية
وتتضمن الخطة، وفق التسريبات، مطالب جديدة قديمة من أوكرانيا، أبرزها: التنازل عن أجزاء من أراضيها، وعودة شبه جزيرة القرم إلى السيادة الروسية، وعدم الانضمام لأي تحالف عسكري وخاصة حلف الناتو، إضافة إلى التنازل عن أجزاء من إقليم دونباس الذي يضم غالبية من أصول روسية. ويرى معلوف أنّه من الصعب جداً أن تقبل كييف بهذه الشروط، رغم الحديث المتداول عن لقاء مرتقب بين ترامب وزيلينسكي خلال الأيام المقبلة. وأضاف أنّ “ترامب يبدو وكأنه عاد إلى منهجه القديم الذي يقوم على مطالبة أوكرانيا بالتنازل عن أراضٍ مقابل إنهاء الحرب، فقط لكي يُظهر نفسه على أنه الرئيس الذي أنهى النزاعات ويستحق جائزة نوبل للسلام”.
وعن الموقف الأوروبي، شدّد السفير معلوف على أنّ دول أوروبا “لا تريد أن تخسر أوكرانيا الحرب، ليس بدافع العاطفة، بل لأن كييف مرشحة مستقبلاً للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي”. وأوضح أنّ الهزيمة الأوكرانية قد تفتح الباب أمام روسيا “للتوسع وشن عمليات عسكرية ضد دول أوروبية أخرى”، وهو ما يشكل خطراً مباشراً على الأمن القاري.
واستعاد معلوف لقاء الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مع بوتين قبل أسبوعين من الغزو في فبراير 2022، حين حاول إقناعه بعدم اجتياح أوكرانيا، لأن “أوروبا كانت ولا تزال تخشى من تمدد النفوذ الروسي وتكرار السيناريو في دول أخرى”. وقال إنّ أوروبا تنظر اليوم إلى الخطة الأميركية الجديدة باعتبارها “هزيمة لأوكرانيا”، وأنها قد تشجع موسكو على “خوض مغامرات عسكرية إضافية”.
وأوضح أنّ البنود المسربة للخطة، مثل التنازل الإقليمي، وتقليص حجم الجيش الأوكراني، والتخلي عن الصواريخ بعيدة المدى، فضلاً عن التنازل عن القرم ودونباس، تجعل أوروبا ترى أنّ المبادرة “تخدم المصالح الروسية أكثر مما تضمن الأمن الأوروبي”. وختم بالقول إنّ القارة الأوروبية لن تقبل بأي حل يفرض على أوكرانيا خسارة أراضٍ أو تقليص قدراتها الدفاعية، لأنها تعتبر أنّ أي تراجع أوكراني اليوم قد يفتح الباب أمام مرحلة خطرة من عدم الاستقرار في أوروبا بأكملها.
من جانبه، يرى رضا سعد، مدير مركز جنيف للدراسات السياسية، في تصريح خاص لـ “داي نيوز”، أنّ الحرب في أوكرانيا “أصبحت عبئاً على الجميع، من النواحي العسكرية والأمنية والاقتصادية”، مشيراً إلى أنّ الولايات المتحدة، في ظل رئاسة دونالد ترامب، تسعى إلى إنهاء الحرب لأن الرئيس الأميركي “يبحث عن الاستقرار السياسي في دول العالم، ليكون بمقدوره عقد صفقات اقتصادية”.

واعتبر أنّ اتفاقية المعادن مع أوكرانيا مثال واضح على هذه المقاربة، إلى جانب “الصفقات التي يسعى ترامب لإبرامها مع دول عربية أيضاً”، ما يجعل بحسب سعد “الرغبة الأميركية في إنهاء الحرب حاجة ملحّة للرئيس القادم من عالم المال”.
وأوضح أنّ المشهد يبدو مختلفاً في أوروبا، إذ يشعر الأوروبيون الذين “تحمّلوا من ميزانياتهم طوال سنوات الحرب دعماً كبيراً لأوكرانيا”، أنّهم باتوا بعيدين عن أي تسوية محتملة يجري التفاوض حولها بين واشنطن وموسكو. وأضاف أنّ الأوروبيين “ينزعجون من تفرّد الأميركيين بإدارة الخطط الخاصة بإنهاء الحرب”، وقد بدأت الأصوات الصادرة من بروكسل “تُعبّر تباعاً عن هذه الهواجس”.
وأشار سعد إلى أنّ دول الاتحاد الأوروبي ترى أن أي “صفقة أميركية–روسية محتملة ستكون على حساب الاقتصاد والأمن الأوروبي”، خصوصاً في ظل ما يصفونه بـ”التفوق الروسي في المعركة” و”إحجام إدارة ترامب عن التصعيد العسكري في مواجهة موسكو على الساحة الأوكرانية”. وقال إنّ هذا النهج يعكس بوضوح سياسة ترامب التي “تقوم على الصفقات التجارية كأولوية مطلقة”، انسجاماً مع وعوده الانتخابية التي لطالما شدّدت على أنّ “مصلحة أميركا أولاً”.
و يقف المشهد الأوكراني أمام مفترق طرق خطير أولها الضغوط الأميركية لفرض سلام سريع، ومواقف أوروبية رافضة لأي تنازل، وإصرار روسي على تثبيت مكاسب الحرب.
أما كييف، فتبقى عالقة بين الرغبة في حماية سيادتها والحاجة إلى دعم دولي في وقت تتآكل فيه قدراتها تدريجيًا.
وفي ظل استمرار الهجمات الروسية والتوترات السياسية داخل أوكرانيا، يبدو أن الطريق نحو سلام عادل لا يزال طويلًا، فيما يدفع المدنيون الثمن الأكبر لحرب لا تزال بلا أفق واضح.



