ممداني في السردية الإيرانية: خميني بحلة أوروبية، حصاد الديمقراطية، دمية أمريكية
د. محمد سيف الدين – كاتب وإذاعي
أحدث فوز “زُهران ممداني” السياسي الأمريكي المسلم “شيعي المذهب” في انتخابات بلدية نيويورك، قلب الاقتصاد الأمريكي، زلزالًا مدويًا هز الأروقة السياسية في الولايات المتحدة، وامتدت توابعه إلى أغلب بلدان العالم الإسلامي خاصة “إيران”.
ممداني شاب يبلغ من العمر 34 سنة من جذور هندية أوغندية، أبوه “محمود ممداني” أستاذ علم الإنسان والعلوم السياسية والدراسات الأفريقية بجامعة كولومبيا من شيعة الكُجرات الاثني عشرية (الخوجة)، وأمه “ميرا ناير” Mira Nair المخرجة الهندية المشهورة من هندوس البنجاب. ولد في العاصمة الأوغندية “كامبالا” عام 1991، ثم انتقل مع عائلته إلى الولايات المتحدة عام 2008، ونال درجة البكالوريوس في الدراسات الأفريقية من “جامعة بودوين” عام 2014، وحصل على الجنسية الأمريكية عام 2018.
ممداني عضو في الحزب الديمقراطي ومنظمة الديمقراطيين الاشتراكيين الأمريكيين، ويمثل تيار المهاجرين في نيويورك أو مثلما قال في كلمته عقب فوزه بكرسي العمدة، مخاطبًا الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” Donald Trump: إن نيويورك بلدة المهاجرين؛ بناها المهاجرين، ومدعومة منهم، ومن الليلة يقودها مهاجر.
ربما يرى الكثيرون أن انتخاب “زهران ممداني” عمدة نيويورك حدث ليس له أية أهمية للإيرانيين، لكنه أصبح ذريعة ينتقدون بها ما جرى في بلادهم من تطورات سياسية عقب الثورة الإيرانية عام 1979، ونموذجًا يقارنون به العملية الانتخابية وكيفية اختيار المرشحين في كلا البلدين.
يؤكد عدد من الخبراء الدوليين أن برنامج ممداني في الماراثون الانتخابي يجب تفسيره في إطار السياسات الحضرية ومفهوم العدالة الاجتماعية في أمريكا، لكن يبدو أن شعارات ممداني المرتكزة على ضمان حقوق الأقليات والمساواة والعدالة الاجتماعية قد ذكرت عدد كبير من رواد وسائل التواصل الاجتماعي المعارضين داخل إيران وخارجها بوعود الثورة الإيرانية في أيام مخاضها وولادتها، حيث قالوا: إن شعارات ممداني تشبه تصريحات “الخُميني” في سنوات الثورة الأولى، وأطلقوا عليه “خميني بربطة عنق”، وكتبوا متهكمين عبر صفحاتهم الشخصية “مَن يطلق وعود باستقلال حافلات مجانية، ينجح دائمًا”.
بعد شهر واحد من انتصار الثورة الإيرانية، تحدث الخميني عن توفير الماء والكهرباء والمواصلات العامة للطبقات الفقيرة والمحرومة مجانًا، وقال: لا تفرحوا بأننا سنبني مساكن فحسب، بل سنجعل الماء والكهرباء والحافلات للطبقة الفقيرة مجانًا.
فضلًا عن المناداة بالعدالة الاجتماعية، تحدث ممداني أمام أنصاره، تزامنًا مع مسيرات احتفال مؤيدي النظام الإيراني بذكرى اقتحام السفارة الأمريكية في طهران يوم 4 نوفمبر، عن “إسقاط سلالة سياسية”، ووصف الفوز في انتخابات بلدية نيويورك بأنه خريطة طريق من أجل ترهيب المستبدين وتوقيف ترامب وحلفائه.
نبرة ممداني الحادة الموجهة إلى منافسه المستقل “أندرو كومو” Andrew Cuomo آنذاك، أعادت إلى أذهان المعارضين الإيرانيين ذكرى خطب الخميني المناهضة للشاه قبيل الثورة، وجعلتهم يشبهون ممداني بالخميني، ويرونهما بوقين أجوفين لا طائل منها سوى الصياح.
تتعلق وعود “زهران ممداني” الانتخابية في المقام الأول بتوفير حافلات مجانية، وتجميد زيادة الإيجار لساكني ما يقرب من مليوني شقة بنيويورك، وتوفير حضانات مجانية لجميع العائلات القاطنة بها. من أجل تحقيق هذه الوعود وتوفير ميزانية لها، يعتزم ممداني فرض ضريبة ثابتة بنسبة 2% على سكان نيويورك ممن تزيد دخولهم السنوية عن مليون دولار، وزيادة نسبة الضريبة على الشركات من 7.25% إلى 11.5%.، لكن هذا المقترح يواجه تحديات جدية؛ فعلى سبيل المثال، صرحت حاكمة ولاية نيويورك “كاثي هوكول” Kathy Hochul بأنها لن تدعم برنامج العمدة الجديد القائم على زيادة الضرائب على الأثرياء مع أنها دعمت ترشيحه في الانتخابات.
ردود الفعل الإيرانية تجاه فوز ممداني
رحبت بعض الشخصيات السياسية المقربة من النظام الإيراني بفوز “زهران ممداني”؛ من بينهم البروفسور “فؤاد إيزدي”، أستاذ الدراسات الأمريكية بجامعة طهران، حيث كتب عبر منصة “إيكس” ناسبًا فوز ممداني إلى شعارات الثورة الإيرانية، قائلًا: رسالة 4 نوفمبر –يوم اقتحام الثوار الإيرانيين لمبني السفارة الأمريكية في طهران واحتجاز موظفيها رهائن– قد وصلت إلى نيويورك.
وكتب كذلك النائب الأصولي “مجتبى زارعي” عبر منصة “إكس” تعليقًا على فوز ممداني: مع تولي زهران ممداني منصب عمدة نيويورك، تقدم العالم خطوة صوب اعتقال شريك ترامب المجرم نتنياهو. فليحيا ممداني وليمت نتنياهو.
يبدو أن التصريحات السابقة من قبل مؤيدي النظام الإيراني تشير إلى مواقف ممداني الداعمة للفلسطينيين وانتقاده الحاد لإسرائيل؛ وهي مواقف تتجاوز التوجهات المعتادة لقادة الحزب الديمقراطي الأمريكي تجاه القضية الفلسطينية وقضايا الشرق الأوسط عمومًا، فقد ذكر ممداني أنه يعتقد أن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية في قطاع غزة، وأنها دولة فصل عنصري، وأن رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” يجب اعتقاله.
يرى بعض رجالات القانون الأمريكيين أن تنفيذ طلب عمدة نيويورك من شرطة المدينة باعتقال نتنياهو يعد تحديًا كبيرًا، ومن الممكن أن يكون غير قانوني بموجب القوانين الفيدرالية الأمريكية.
ضغوط كثيرة وتساؤلات متكررة تعرض لها ممداني من قبل المحاورين خلال المقابلات الإعلامية فيما يخص هل يدعم حق إسرائيل في الوجود كدولة يهودية أم لا؟ وكان يجيب قائلًا: إنني لا أشعر بارتياح إزاء دعم أية دولة يوجد بها تسلسل هرمي من المواطنة بناءً على الدين أو أي معيار آخر. أعتقد أنه يجب ضمان المساواة في جميع دول العالم كما هو الحال في الولايات المتحدة. حديث ممداني يشير إلى المجتمع الإسرائيلي المقسم وفقًا للعرق والدين (اليهود الأشكناز والسفارديم الأوروبيين والشرقيين، وعرب 48 المسلمين والمسيحيين).
وكان ممداني قد التقى بعض الجماعات اليهودية بنيويورك خلال حملته الانتخابية، وقال: لا مكان لمعاداة السامية في نيويورك، وإنه سيزيد ميزانية مكافحة جرائم الكراهية إذا أصبح عمدة. مع ذلك كانت نسبة الأصوات اليهودية التي حصل عليها أقل كثيرًا، من منافسه المستقل “أندرو كومو”.
معجزة مدنية أم خدعة أمريكية؟
رحب عدد من المحللين والنشطاء السياسيين الأصوليين والإصلاحيين في وسائل الإعلام والصحف الإيرانية المقربة منهم بفوز ممداني في انتخابات عمدة نيويورك، وربطوا نتيجتها بدعم القضية الفلسطينية ومواجهة الإسلاموفوبيا في الغرب ومكافحة العنصرية، وسلطوا الضوء على ديانة ممداني باعتباره مسلمًا شيعيًا.
أشارت صحيفة “الجمهورية الإسلامية” في مقالها الافتتاحي يوم السبت 29 أكتوبر إلى مواقف ممداني المناهضة لترامب والداعمة للفلسطينيين، واعتبرت فوزه مؤشرًا على تغير المناخ السياسي في الولايات المتحدة، لكنها كتبت في الوقت نفسه أنه لا ينبغي التسرع في الحكم على تداعيات هذا الفوز، ويجب انتظار نتائجه العملية.
أما فيما يتعلق بمذهب ممداني، فقد ذكرت الصحيفة أن شيعة الخوجة” المنتمي إليهم ممداني يتبعون “نهج حياة هادئ وحذر ومحافظ”. مع ذلك يذكر ممداني أنه اقتحم معترك السياسة والنضال الوطني من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية في أمريكا، مستلهمًا شخصية الإمام “الحسين” وواقعة “كربلاء” خلال مسيرته العملية، لكنه في الوقت نفسه يدعم حقوق الأقليات الجنسية والجندرية بقوة.
كما تناول أئمة صلاة الجمعة في عدد من المدن الإيرانية انتخابات بلدية نيويورك، ومن بينهم “حسن عاملي” إمام جمعة “أردبيل”، حيث قال في خطبته يوم الجمعة الموافق 7 نوفمبر: لقد استطاعت غزة أن توصل الزلزال إلى نيويورك، فممداني المسلم وصل إلى كرسي بلدية نيويورك بشعارات دعم فلسطين.
من ناحية أخرى، ترى بعض الشخصيات المقربة من النظام الإيراني أن هناك مخططًا وراء انتخاب ممداني عمدة نيويورك، حيث يذكر أمين هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر “محمد حسین طاهري آکردي” أن انتخاب ممداني هو خدعة سياسية من جانب الولايات المتحدة، ويقول: إن الأمريكيين يهدفون من هذه الخطوة إلى وقف تمدد النفوذ الإسلامي في الغرب، ويسعون إلى تصعيد وجه إسلامي مُتحكَّم به في هيكل السلطة الغربية من خلال خلق رموز ظاهرية حتى يحولوا دون تنامي التيارات الإسلامية الحقيقية.
في هذا السياق، تجدر الإشارة إلى ردود فعل عدد من الشخصيات العلمية والثقافية في إيران مثل عالم الاجتماع “جواد كاشي” الذي يعتبر انتخاب ممداني “معجزة مدنية”، حيث كتب “كاشي” عبر قناته الشخصية على منصة “تلجرام”: زهران ممداني البالغ من العمر 34 سنة أطلق الذبابة الديمقراطية –التي تضايق الغني والفقير على حد سواء– وأزعج نوم الليبرالية الاقتصادية وتوجهات ترامب القومية. الديمقراطية ليست شعارًا مقدسًا، وليست مجرد أداة. إنها ذبابة مزعجة تشق الجلد السميك لأية هوية سياسية مغلقة، وتضع أزماتها وعيوبها نصب الأعين. لقد كان ترامب منتشيًا بالسلطة، واستمر في الهجوم بكل قوة، غير عابئ بالطبقات الدنيا والمهاجرين وما يدور في أذهان الرأي العام بخصوص القضية الفلسطينية. الديمقراطية في خطب ممداني حولت هذه النقائص إلى قضية ألقتها في وجه اليمين المتطرف الأمريكي.
المقارنة بين ترشيح الأقليات في أمريكا وإيران
على الجانب الآخر، أصبحت انتخابات بلدية نيويورك وفوز ممداني بها نموذجًا يقارن به الإيرانيون تعامل النظام مع ترشح الأقليات العرقية والدينية في الانتخابات الدستورية.
كتب رجل القانون “محمود بور رضايي الفشخامي” في تعليق نقدي عبر قناة “قانون” على منصة “تلجرام”: عمدة نيويورك من أصول أوغندية، وعمدة لندن (صادق خان) من أصول باكستانية، وعمدة تورنتو (أوليفيا تشاو) Olivia Chow من أصول هونج كونجية، وعمدة باريس (آن هيدالجو) Anne Hidalgo من أصول إسبانية. لكن في إيران، لا نزال نرفض ترشيح شخص في انتخابات رئاسة الجمهورية بسبب جنسية ابنته، كما أن تخصص ممداني الأكاديمي ليس مرتبطًا بلائحة بلدية نيويورك. لو كان هذا الشخص في إيران، ما كان بإمكانه أن يصبح عمدة قرية.
كما لفت الباحث في شؤون الشرق الأوسط “إحسان سلطاني” عبر قناته الشخصية على منصة “تلجرام” ردًا على بعض الإيرانيين المسرورين بانتخابات مسلم شيعي عمدة نيويورك، إلى قضية “سبنتا نيكنام” الذي عُلقت عضوته في مجلس بلدية “يزد” كونه زرادشتيًا.
وفي السياق نفسه، ذكر الإصلاحي الكُردي السُني “جلال جلالي زاده”، النائب الأسبق في البرلمان الإيراني أنه في “أم قُرى العالم الإسلامي” –في إشارة منه إلى إيران من وجهة نظر النائب الأسبق “محمد جواد أردشير لاريجاني”– لم يُسمح بوجود مرشحين سنيين في قائمة الإصلاحيين خلال انتخابات مجلس بلدية طهران.
وأكد محلل الشؤون السياسية “يد الله كريمي بور” في تعليق له عبر قناته الشخصية على منصة “تلجرام”، أن الهوية الثقافية والدينية لزهران ممداني لم تلعب دورًا في فوزه بالانتخابات، لكن فوزه كان نتيجة سياساته الحضرية اليسارية والإصلاحية وضيق الناس من الحزبين التقليديين في أمريكا “الجمهوري والديمقراطي”، وقال: إن برنامج ممداني عن الإسكان ميسور التكلفة والضرائب على الأثرياء ودعم الأحياء منخفضة الدخول يجيب عن أزمة العدالة الاجتماعية في المدن الكبرى.
حيرة المتشددين في إيران
كتب الصحفي والناشط السياسي الإصلاحي “أحمد زيد آبادي” في تعليق له بعنوان “فوز ممداني وتناقض المتشددين” عبر قناته الشخصية على منصة “تلجرام”: إن ظاهرة مثل فوز زهران ممداني في انتخابات بلدية نيويورك تضع التيارات المتشددة اليسارية والدينية في تناقض لا يمكن حله. هذه الفئة من القوى لا تعرف هل يجب أن تعبر عن سعادتها بهذا الفوز أم استيائها؟ فإذا أعربوا عن سعادتهم، فإنهم يقرون فعليًا بقدرة الديمقراطية الأمريكية، وإذا أعربوا عن استيائهم، فإنهم يقفون إلى جانب ترامب واليمين المتطرف.
كتب كذلك الباحث في الدراسات الإسلامية والشرق أوسطية “مجید مرادي رودبشتي” عبر قناته الشخصية على منصة “تلجرام”: بعض الناس في إيران أصيبوا بدوار، ولا يعرفون ماذا يفعلون؟ هل يفرحون بفوز زهران ممداني الشيعي الاثني عشري، أم ينظمون شعرًا عن مساوئ الليبرالية والديمقراطية الأمريكية؟
في النهاية أقول إنه رغم كل ما أبداه الإيرانيون من تعليقات إيجابية أو سلبية عن فوز “زهران ممداني” في انتخابات بلدية نيويورك، وما قد يترتب عليه من تغييرات في الشأن الداخلي الأمريكي قد تتعارض مع شطحات ترامب السياسية، يظل هذا الحدث دليلًا على أن الدول الغربية لا يحكمها أفراد، بل مؤسسات تُنحِّي وجوه وتأتي بوجوه، لكن تظل السياسة العامة مستمرة دون تغييرات جذرية على عكس ما يحدث في شرق أوسطنا. ترامب، كيري، أوباما، بوش الابن… أطيلوا في القائمة مثلما تشاؤون. كانت أمريكا ولا تزال تنتهج النهج نفسه لا يغيرها سوى تعامل الطرف الآخر.



