أفغانستان وباكستان… جولة مفاوضات بطابع استخباراتي

كتبت: سارة محمود
تدهورت العلاقات بين أفغانستان وباكستان بشكل حاد خلال العامين الماضيين، بعد اتهام باكستان لأفغانستان بإيواء حركة طالبان الباكستانية، وعلى الجانب الآخر كابل تنفي هذه الاتهامات مؤكدة أن ليس لها علاقة بأي نشاط جماعي مسلح مستقل.
والذي أشعل الحدود مؤخرا هو تلك الإشتباكات التي اندلعت في أكتوبر الماضي من غارات جوية باكستانية على مواقع داخل أفغانستان والتي تلاها هجمات طالبان على مواقع عسكرية حدودية، ولا تزال الحدود مغلقة أمام حركة التجارة مما أدي إلى تفاقم الوضع الإنساني في تلك المناطق.
إقرأ أيضاً: طالبان: مفاوضات السلام مع باكستان انهارت ووقف إطلاق النار مستمر
مفاوضات بلا نتيجة
وبعد توقيع اتفاق وقف إطلاق النار بين البلدين بالعاصمة القطرية الدوحة في 19 أكتوبر الماضي، لكن حرب التصريحات الإعلامية بين الطرفين لم تهدأ.
وبالتالي اجتمع الوفدان الأفغاني والباكستاني بإسطنبول في 25 أكتوبر الماضي لعقد جولة ثانية من المفاوضات بحيث يتم البحث في سبل تنفيذ وقف إطلاق النار، ولكن المفاوضات كانت قد إنهارت في يومها الثالث.
وأعلت باكستان بالفعل عن فشل المفاوضات وعدم الإتفاق مع حكومة طالبان الأفغانية، ولكن الوسطاء قد أنقذوا الجلسة الأخيرة التي توصل فيها الطرفان إلى تمديد وقف إطلاق النار، وقرروا عقد جولة ثالثة بإسطنبول في 6 نوفمبر الجاري.
وكشفت وسائل إعلام أفغانية أن رئيس الاستخبارات في حكومة طالبان، عبد الحق وثيق، يترأس الوفد الأفغاني بمشاركة مسؤولين من وزارتي الداخلية والخارجية، بينما ذكرت صحف باكستانية أن مستشار الأمن القومي ورئيس الاستخبارات العسكرية، عاصم ملك، يترأّس الوفد الباكستاني المشارك في مفاوضات إسطنبول.
وقبل إنعقاد جولة المفاوضات الثالثة قال وزير الدفاع الباكستاني خواجة محمد آصف “إذا لم تُسفر هذه المفاوضات عن نتائج واستمرت الهجمات ضد باكستان من داخل الأراضي الأفغانية، فإن الحرب ستكون حتمية”، كما أكدت باكستان على أن استمرار الهجمات عبر الحدود يمثل انتهاكاً لوقف إطلاق النار، وطالبت أفغانستان بتحمل المسؤلية الكاملة عن منع الهجمات.
ومن جهة حكومة طالبان فقد صرحت بأن مطالب باكستان غير واقعية، إذ لم تمنع هجمات طالبان الباكستانية داخل أراضي باكستان، مع التشديد على الإلتزام بعدم السماح لأي جماعات بشن هجمات على إسلام آباد من أفغانستان.
مستجدات المفاوضات
كما ذكر في نص كلمة المتحدث باسم إمارة أفغانستان الإسلامية في المؤتمر الصحفي حول التطورات الأخيرة فإنه قال: ” بدو للأسف أنّ بعض الدوائر العسكرية الخاصة في باكستان لا يطيب لها أن ترى في أفغانستان حكومةً مركزيةً قويةً، ولا أن يسودها الأمنُ والاستقرارُ بصورةٍ عامة؛ لأنّها طالما استفادت من أوضاعِ انعدامِ الأمنِ والاحتلالاتِ والنزوحِ والاضطرارِ التي عاشتها أفغانستان، وها هي اليوم تسعى مجدّدًا إلى افتعالِ مشكلاتٍ مع أفغانستان عبر اختلاقِ المبرّرات.
ونحن نعلم يقينًا أنّ السياساتِ المناهضةَ لأفغانستان التي تنتهجها هذه الدوائرُ العسكرية لا تحظى بتأييدِ الشعبِ الباكستانيِّ المتديّن، ولا بموافقةِ الأحزابِ السياسية، ولا برضا العلماءِ الأفاضل.
هذه الدوائر تُوجّه اتهاماتٍ باطلةً لإمارة أفغانستان الإسلامية، وتُصوّر للعالم أنّ انعدامَ الأمن في باكستان وظهورَ حركة طالبان باكستان قد تزامنا مع مجيء حكومة الإمارة الإسلامية إلى أفغانستان؛ في حين أنّ هذه الاضطراباتِ ووجود حركة طالبان باكستان يعودان في أصلهما إلى عام 2002م، حين اتّبعت القياداتُ العسكرية الباكستانية آنذاك سياساتٍ خاطئة، فتحالفت مع الولايات المتحدة، وسمحت للطائرات الأمريكية من دون طيار بشنّ غاراتٍ على مناطق وزيرستان والمناطق القبلية، كما خلقت عداوةً مع سكانِ وزيرستان المساكين، وشنّت عليهم مرارًا وتكرارًا عملياتٍ عسكريةً كبرى وصغرى، قتلت فيها الأبرياء، ودمّرت البيوت، وملأت السجونَ بأبناءِ القبائل”.
إقرأ أيضاً: كابول تحذر إسلام آباد: تصعيد عسكرى بعد انهيار محادثات السلام بين أفغانستان وباكستان
مناوشات بسبب عدم رضا باكستان عن الحكومة الأفغانية
ومن هذا السياق أكد هشام قدري على أن الأمر ليس له علاقة بالرضا من عدمه وإنما ترى الحكومة الباكستانية أنها فقدت السيطرة على أداة “طالبان” التي كانت تعتبرها ملكًا لها، فبعد أن كانت باكستان هي الراعي التاريخي الأبرز لظهور حركة طالبان وتراها عمقًا استراتيجيًا لحماية حدودها، انقلب المشهد عقب عودة الحركة إلى سدة الحكم في كابول عام 2021 بما مثّل تحولًا عميقًا في موازين القوى الإقليمية، وتغذية لنقاط خلاف كامنة تعود لعقود.
وأوضح هشام قدري محلل الشؤون الاستراتيجية والإقليمية لموقع “داي نيوز” الإخباري أن جذور التوتر الحالي تكمن في ثلاثة محاور استراتيجية:
الخلاف الحدودي: الإصرار الأفغاني على عدم الاعتراف بـ “خط ديوراند” الحدودي، الذي يقسم عرقية البشتون ويطعن في سيادة باكستان على مناطقها الغربية.
تهديد الأمن القومي: تزايد الأدلة – ومنها تقارير صادرة عن الأمم المتحدة – على دعم حكومة طالبان لحركة “طالبان باكستان” (TTP) المعادية لإسلام أباد، والتي كثفت عملياتها بشكل لافت.
المناورات الإقليمية: التحسن التدريجي في العلاقات بين كابول والخصم اللدود لباكستان، جمهورية الهند، مما يثير قلق باكستان التي تواجه تهديدًا أمنيًا إضافيًا من حركة “طالبان باكستان” TPP في ظل ضغوطًا اقتصادية وعسكرية من الداخل.
تصاعد العمليات الإرهابية في باكستان عقب تولي الإمارة الإسلامية الحكم الافغاني
وأضاف قدري أن التزامن المُلفت بين تولي “الإمارة الإسلامية” الحكم في أفغانستان وتصاعد العمليات النوعية لحركة “طالبان باكستان” (TTP) يمكن تفسيره من منظورين متكاملين:
الإلهام والتمكين العسكري: لا يمكن إنكار أن انتصار طالبان في كابول قد منح TTP دفعة معنوية وروح قتال غير مسبوقة وملاذًا آمنًا لها، والأهم هو الدعم المادي المتمثل في التدريب والسلاح، وتحديدًا الغنائم الأمريكية التي تُركت بعد الانسحاب عام 2021. وقد انعكس ذلك مباشرة على الزيادة الملحوظة في وتيرة وقوة العمليات ضد الجيش الباكستاني.
ورقة الضغط السياسية: ترى “الإمارة الإسلامية” في TTP أداة ضغط استراتيجية. قد يكون الهدف المعلن هو العمل على ترسيخ شرعية الإمارة عبر محاولة توحيد عرقية البشتون مجددًا تحت مظلة واحدة، بينما الهدف العملي هو ممارسة ضغط مستمر على الحكومة الباكستانية لتسهيل الممرات التجارية وفتح المعابر الحدودية، لضمان تدفق المساعدات وتخفيف العزلة الاقتصادية عن كابول، ناهيك عن كون “طالبان باكستان” TTP تجسيدًا لمشروع أيدولوجي مشترك إذ تسعى الأخيرة لتطبيق نموذج الدولة الإسلامية في باكستان.
القتال مع قبائل البشتون أم طالبان!؟
ولفت المحلل إلى إن تحديد هوية المقاتل على الحدود الباكستانية-الأفغانية يكتنفه قدر كبير من الضبابية نتيجة للتداخل العرقي والأيديولوجي. فمن الناحية الجيوسياسية، ليس من مصلحة باكستان فتح جبهة صراع إضافية على حدودها الغربية، لما يشكله ذلك من عبء على استنفارها العسكري الدائم على الجبهة الهندية. كما أنه ليس من مصلحة أفغانستان الانخراط في صراع طويل الأمد في ظل التحديات الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية العميقة التي تواجهها الإمارة.
وأضاف قدري أنه في ظل بيئة تتسم بالتعقيد الأيديولوجي وتضارب المصالح، يصعب الجزم بأن قبائل البشتون تقاتل بمعزل تام عن حكومة “الإمارة الإسلامية” التي يحتمل استخدامها استراتيجية “الإنكار المعقول” متعمدة للتنصل أمام المجتمع الدولي من دعم TTP صراحة أو تنتهك اتفاقياتها مع الولايات المتحدة الحليف لباكستان.
ما فعلته الإمارة الإسلامية للحد من الهجمات الإرهابية
ويري المحلل أن حكومة طالبان في أفغانستان تتخذ مقاربة مزدوجة لملف النازحين والعائدين، هدفها الظاهري هو إظهار الالتزام بالمعايير الدولية لـ “التحضر” وحشد الدعم الإنساني الدولي. وقد تجلى ذلك في دعواتها للمنظمات الإنسانية للمساعدة في توفير سبل العيش لملايين اللاجئين الأفغان العائدين، معظمهم قسرًا من باكستان وإيران مؤخرًا، ما يتيح للإمارة هامش نسبي يرفع من فرص الاعتراف الدولي بها.
لكن على الصعيد الأمني، يُستبعد أن يكون لهذه الجهود تأثير ملموس في الحد من الهجمات على باكستان. بل إن ملف اللاجئين يُستخدم في الواقع كورقة ضغط جيوسياسية. إن الترحيل القسري للاجئين من باكستان وإيران يخدم هدفين لطالبان: ترسيخ الشرعية الداخلية من خلال إعادة المواطنين، و توتير العلاقات مع الخصوم عبر التعامل مع هذا الملف كأداة للضغط.
وأختتم قدري حديثه بأن القرار الباكستاني بترحيل اللاجئين الأفغان يزيد من حالة الفوضى الأمنية في أفغانستان، ويشحن مشاعر العداء ضد إسلام أباد. والأهم، أنه يزيد من عدد السكان العاطلين عن العمل والساخطين داخل أفغانستان، مما يشكل “خزانًا” جديدًا محتملًا للتجنيد لصالح TTP.



