تقارير

المقاتلة الأوروبية المستقبلية.. صراع باريس وبرلين يهدد طموح أوروبا الدفاعي

كتبت: هدير البحيري

في لحظة حاسمة في تاريخ الدفاع الأوروبي، يقف مشروع الطائرة القتالية المستقبلية (FCAS)، الذي كان من المفترض أن يجسد حلم القارة العجوز بالتحرر من المظلة العسكرية الأمريكية، أمام اختبار مصيري يهدد مستقبله.

المشروع، الذي تُقدر تكلفته بنحو مئة مليار يورو، يهدف إلى تطوير مقاتلة من الجيل السادس مدعومة بطائرات مسيرة وشبكة رقمية متكاملة تُعرف باسم “السحابة القتالية”، ليكون حجر الأساس في بناء استقلالية أوروبا الدفاعية. غير أن طموح القارة بدأ يتآكل تحت وطأة الخلافات السياسية والصناعية بين باريس وبرلين، وتزايدت الشكوك حول قدرة الاتحاد الأوروبي على توحيد رؤيته الدفاعية.

اضطرابات باريس.. السياسة تضع الدفاع الفرنسي في مأزق

تعيش فرنسا واحدة من أكثر مراحلها السياسية اضطرابًا في السنوات الأخيرة، ما انعكس بشكل مباشر على مشاريعها الدفاعية الكبرى.

خلال خمسة عشر شهرًا فقط، شهدت باريس أربعة تغييرات متتالية في رئاسة الحكومة، كان آخرها عودة سيباستيان ليكورنو إلى المنصب بعد استقالة قصيرة، وسط وعود بحزم اقتصادية جديدة تهدد بزيادة الديون العامة.

هذا التقلب السياسي ألقى بظلال من الشك داخل العواصم الأوروبية حول قدرة فرنسا على الوفاء بالتزاماتها الدفاعية طويلة الأمد، خصوصًا بعد تعيين كاثرين فوتران وزيرة جديدة للدفاع رغم افتقارها للخبرة العسكرية.

وفي خضم هذه الفوضى، حذر وزير الدفاع الألماني بوريس بيستوريوس من احتمال انسحاب بلاده من المشروع إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق واضح بين الشركاء الثلاثة – فرنسا وألمانيا وإسبانيا – قبل نهاية عام ألفين وخمسة وعشرين، في إشارة إلى عمق الأزمة التي تهدد مستقبل التعاون الدفاعي الأوروبي.

باريس وبرلين.. صراع القيادة يهدد الطموح الأوروبي

في قلب الأزمة يكمن صراع فرنسي – ألماني حول هوية المشروع وأولوياته.

ففي الوقت الذي ترى شركة “داسو” الفرنسية أن المقاتلة الجديدة NGF هي محور المشروع وقلبه النابض، تعتبر شركة “إيرباص” الألمانية – الإسبانية أن الأنظمة غير المأهولة و”السحابة القتالية” لا تقل أهمية عن المقاتلة نفسها.

وتفاقم التوتر منذ عام ألفين وتسعة عشر، عندما حصلت إسبانيا على دور المقاول الرئيسي للمقاتلة NGF، وهو ما اعتبرته باريس تقليصًا لنفوذها داخل المشروع.

في المقابل، تسعى برلين إلى دمج طائراتها من طراز F-35 ويوروفايتر ضمن البنية الرقمية الجديدة، بينما تصر فرنسا على أن تكون المقاتلة المستقبلية هي محور التطوير، وليس مجرد عنصر ضمن منظومة أوسع.

وإذا استمرت الخلافات على هذا النحو، قد تتجه باريس إلى تطوير مقاتلتها الخاصة بشكل منفرد من خلال شراكات أوروبية محدودة، ما يعني فعليًا تفكك المشروع الأوروبي المشترك.

أعباء مالية وضغوط سياسية

تُفاقم الأوضاع الاقتصادية المتدهورة في فرنسا من صعوبة الموقف.

فمع تصاعد الديون وتعثر تمرير الموازنة الدفاعية الجديدة، تجد باريس نفسها أمام معادلة صعبة بين خفض الإنفاق والوفاء بتعهداتها الأوروبية.

ورغم تخصيص أكثر من عشرة مليارات يورو لتحديث القدرات العسكرية، فإن الضغوط المالية تهدد بعرقلة تنفيذ هذه الخطة الطموحة.

تحاول باريس الإبقاء على المشروع باعتباره رمزًا لفكرة “الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي”، خصوصًا في ظل تراجع الثقة الأوروبية في الالتزام الأمريكي تجاه أمن القارة بعد الحرب في أوكرانيا.

لكن الانقسامات الهيكلية والسياسية بين العواصم الأوروبية تهدد بتحويل مشروع (FCAS) من رمز للوحدة الدفاعية إلى ملف مثقل بالأزمات والتأجيلات.

تعثر المشروع يمثل ضربة للاستقلال الاستراتيجي الأوروبي

وفي هذا السياق، قالت رئيس مركز “أون ريسيرش” للبحوث العلمية والاستشارات والباحثة في العلاقات الدولية والتنظيم الدولي، الدكتورة شيماء سمير، في حديث خاص لـ”داي نيوز” إن تعثر مشروع المقاتلة الأوروبية المشتركة (FCAS) يمثل ضربة قوية لفكرة “الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي” التي تتبناها فرنسا منذ عهد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.

وأوضحت سمير أن الأزمة لا تقتصر على كونها إخفاقًا تقنيًا، بل تمتد لتشمل أبعادًا رمزية واستراتيجية عميقة، إذ يُعد المشروع أكبر مبادرة دفاعية أوروبية مستقلة، وكان من المفترض أن يجسد طموح القارة نحو تحقيق استقلالها العسكري.

وأضافت سمير أن فشل المشروع يعكس عجز أوروبا عن تحقيق هذا الهدف، ما يعني استمرار اعتماد القدرات القتالية الأوروبية على الطائرات الأمريكية من طراز F-35 وعلى المنظومة الدفاعية الأمريكية بشكل عام.

من زاوية القيادة، ترى الباحثة أن تعثر المشروع يضعف مصداقية فرنسا كقائدة للمسار الدفاعي الأوروبي المستقل، ويفتح الباب أمام استمرار الهيمنة الأمريكية على القرار الدفاعي في القارة.

كما تكشف الخلافات الفرنسية–الألمانية عن أزمة ثقة أوسع داخل الاتحاد الأوروبي، تتعلق بغياب التوافق حول قيادة المشروعات الدفاعية المشتركة وتباين الرؤى الاستراتيجية. ففي حين تسعى فرنسا إلى تحقيق استقلال كامل عن الناتو، تفضل ألمانيا التعاون المكمل مع الحلف.

وأضافت سمير أن الصراع الصناعي بين شركتي داسو الفرنسية وإيرباص الألمانية يعكس تنافسًا تكنولوجيًا وصناعيًا عميقًا، يتجاوز الجانب التجاري ليعبر عن اختلاف في الهوية والنموذج الإداري؛ إذ تجسد “داسو” مفهوم السيادة التكنولوجية الفرنسية ونهج الإدارة المركزي، بينما تمثل “إيرباص” فكرة التكامل الأوروبي متعدد الأطراف والنهج الألماني اللامركزي.

وفيما يتعلق بتراجع الثقة في قدرة باريس على قيادة الدفاع الأوروبي، تشير شيماء إلى أن هذه الثقة تتآكل تدريجيًا نتيجة الاضطرابات السياسية الداخلية في فرنسا وحرصها على الهيمنة الصناعية داخل المشروعات المشتركة، إلى جانب اتجاه بعض الدول الأوروبية إلى شراء مقاتلات F-35 الأمريكية بدلًا من انتظار نتائج المشروع الأوروبي.

كما أن بروز بدائل مثل التعاون البريطاني في مشروع “TEMPEST” يزيد من عزلة باريس في هذا الملف.

وترى الباحثة أن تعثر المشروع قد يؤدي فعلًا إلى تعزيز الاعتماد الأوروبي على المظلة الأمنية الأمريكية، نظرًا لأن الطائرات من طراز F-35 تمثل البديل العملي والمضمون من حيث الجاهزية والتكامل مع بنية الناتو الدفاعية، مقابل ارتفاع تكاليف تطوير مشروع FCAS وتعقيداته التقنية والسياسية.

وأكدت الدكتورة شيماء سمير أن السيناريو الأقرب هو إعادة هيكلة المشروع جذريًا، فاستمراره بالوضع الراهن مستحيل بسبب عمق الخلافات حول تقاسم الأدوار وحقوق الملكية الفكرية والقيادة التقنية.

وترى سمير أن إعادة الهيكلة يمكن أن تتم من خلال تبسيط نطاق المشروع أو تقسيمه إلى مراحل واضحة الأولويات، وربما عبر إشراك طرف استراتيجي جديد مثل إسبانيا أو بريطانيا لتعديل التوازن داخل المعادلة الفرنسية–الألمانية.

وتشير إلى أن هذه الخطوة قد تؤدي إلى تأجيلات وتقليص للطموحات الأصلية، لكنها تبقى الخيار الواقعي الوحيد لإنقاذ المشروع والحفاظ على السيادة التكنولوجية الأوروبية في مواجهة الضغوط الأمريكية والتحديات الأمنية القادمة من الشرق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى