بين الملف النووي وحرب أوكرانيا.. كيف يفسر التحول الأوروبي الحاد تجاه إيران؟

كتبت: هدير البحيري
في خطوة تعكس تحولًا جذريًا في سياسة أوروبا تجاه طهران، أعلن الاتحاد الأوروبي، الاثنين، عن إعادة فرض حزمة واسعة من العقوبات على إيران، في ظل تصاعد التوتر السياسي والاقتصادي بين الجانبين.
وجاء القرار بعد أن أعادت الأمم المتحدة تفعيل عقوباتها نهاية الأسبوع الماضي، مستندة إلى استخدام القوى الأوروبية لـ”آلية الزناد” المنصوص عليها في الاتفاق النووي المبرم عام 2015.
ولا تقتصر العقوبات الأوروبية الجديدة على حظر الأنشطة النووية الإيرانية وتطوير الصواريخ الباليستية، بل تمتد لتشمل إجراءات مالية صارمة، أبرزها تجميد أصول البنك المركزي الإيراني ووقف جميع التعاملات ذات الصلة، ما يضع أوروبا في خط المواجهة مباشرةً مع طهران، بعد أن سبق أن أعادت الولايات المتحدة فرض عقوباتها بشكل أحادي منذ انسحابها من الاتفاق عام 2018، ما دفع إيران لاحقًا إلى التراجع عن التزاماتها الأساسية تجاه الاتفاق النووي.
الانعكاسات الاقتصادية بدأت تظهر سريعًا، إذ شهدت العملة الإيرانية تراجعًا جديدًا أمام الدولار، لتسجل نحو 1.1 مليون ريال للدولار الواحد، مقارنةً بـ900 ألف ريال في أغسطس الماضي.
من جانبها، رفضت طهران الخطوة الأوروبية والأممية ووصفتها بأنها “غير مبررة”. وأكد الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان أن بلاده لن تستسلم للضغوط، قائلًا: “نحن أمام خيارين، إما الاستسلام وإما الصمود، وسنسلك خيار الصمود بالاعتماد على طاقات شعبنا”.
كما اتهم بزشكيان الولايات المتحدة بانتهاج “سلوك غير منطقي” في تعاملها مع جهود إيران للتوصل إلى تسوية عادلة، فيما وصف وزير الخارجية عباس عراقجي تفعيل “آلية الزناد” من جانب الترويكا الأوروبية بأنه يفتقر إلى الشرعية القانونية والإجرائية ويعتبر “لاغيًا وباطلًا”.
وفي رسالة رسمية إلى الأمم المتحدة، شدد عراقجي على أن جميع القيود المتعلقة بالملف النووي الإيراني من المقرر أن تنتهي منتصف أكتوبر المقبل، محذرًا من أن بلاده لن تعترف بأي محاولة لإحيائها أو تمديدها.
وفي ضوء هذه التطورات، أعادت الأمم المتحدة فرض العقوبات الصارمة بعد عشر سنوات من رفعها، عقب فشل المحادثات النووية بين الجمهورية الإسلامية والقوى الغربية، رغم تأكيد الأوروبيين والأمريكيين أن هذه الإجراءات لا تعني إغلاق باب الدبلوماسية.
وتدخل العقوبات التي تحظر التعاملات المرتبطة بالبرامج النووية والصاروخية الإيرانية، إلى جانب قيود إضافية، حيز التنفيذ تلقائيًا، في وقت تتصاعد فيه المخاوف بشأن البرنامج النووي الإيراني وعلاقته بالعواصم الغربية، وسط اتهامات لطهران بالسعي لامتلاك قنبلة ذرية، رغم نفيها المستمر وإصرارها على الحق في تطوير الطاقة النووية لأغراض مدنية.
ورغم هذا التصعيد، حرص القادة الأوروبيون على التأكيد أن الدبلوماسية لا تزال مفتوحة، حيث قالت مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي كايا كالاس: “إعادة فرض العقوبات لا يجب أن تكون نهاية المسار الدبلوماسي”.
حرب أوكرانيا: كلمة السر في تحول موقف أوروبا
قال الباحث في الشؤون الإيرانية، وسياسات الشرق الأوسط، أسامة حمدي، في حديث خاص لـ”داي نيوز” إن هناك تغييرات واضحة طرأت على العلاقات بين الدول الأوروبية وإيران.
وأوضح حمدي أن الدول الأوروبية كانت تتبنى مواقف أقل تشددًا تجاه إيران، وخاصة فرنسا، على عكس الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أن هذا الوضع بدأ يتغير بشكل ملموس.
الخلفيات التاريخية ودور فرنسا
وأشار حمدي إلى الخلفيات التاريخية التي أسهمت في هذا التحول، لافتًا إلى أن فرنسا كانت قد احتضنت آية الله الخميني، مؤسس الثورة الإيرانية والجمهورية الإسلامية، في مدينة نوفل لو شاتو قرب باريس قبل اندلاع الثورة.
وأضاف حمدي أن الخميني كان يحظى هناك بحماية المقاومة الفلسطينية، وهو ما لم تسمح به الولايات المتحدة الأمريكية، التي اتخذت موقف “الشيطان الأكبر” تجاه الثورة الإيرانية، وسيطرت على سفارتها في طهران واحتجزت البعثة الدبلوماسية الأمريكية لمدة 444 يومًا، أُفرج عنهم بوساطة جزائرية عقب اندلاع الحرب العراقية–الإيرانية، في محاولة لإضعاف ما تسميه إيران “الاستكبار الأمريكي”.

إيران وروسيا: شراكة استراتيجية ضد العقوبات الغربية
وقال حمدي إن التحول الأوروبي في موقفه تجاه إيران جاء بسبب الدعم الذي قدمته إيران لروسيا في حربها مع أوكرانيا.
وأوضح حمدي أن إيران زودت روسيا بكميات كبيرة من الصواريخ والطائرات المسيرة من طراز “شاهد”، والتي ساهمت في إحداث تحولات كبيرة لصالح روسيا، إذ كانت تغرق الدفاعات الجوية الأوكرانية وتسبب خسائر كبيرة في المدن الأوكرانية.
وأضاف أن إيران قامت بعملية توطين لهذه الصناعة داخل روسيا، وهو ما أغضب الأوروبيين وأدى إلى فرض عقوبات على واردات تدخل في صناعة الأسلحة وعلى موانئ إيرانية.
اللوبي الإسرائيلي والضغط على أوروبا
وأكد الباحث في الشؤون الإيرانية وسياسات الشرق الأوسط أن هناك لوبيًا يهوديًا قويًا في أوروبا يعمل ضد المصالح الإيرانية ويحرض الحكومات الأوروبية عليها، مشيرًا إلى أن إسرائيل قامت بتنشيط هذا اللوبي بهدف خنق إيران اقتصاديًا وعزلها دبلوماسيًا، ودفعها نحو مواجهة مباشرة.
المعارضة الإيرانية في العواصم الأوروبية
وأشار حمدي إلى أن المعارضة الإيرانية تعمل بقوة في العواصم الأوروبية، وخاصة جماعة “مجاهدي خلق” وجناحها السياسي “المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية”، التي تكشف عن انتهاكات حقوق الإنسان في إيران.
وأضاف حمدي أن هذه الأنشطة دفعت الدول الأوروبية لتبني مواقف مناهضة لإيران، خاصة بعد المظاهرات، التي اندلعت إثر وفاة الفتاة “مهسا أميني” على خلفية أزمة الحجاب ووفاتها داخل أماكن الاحتجاز التابعة لشرطة الأخلاق.
صعود اليمينيين وتأثيره على السياسات الأوروبية
وذكر حمدي أن صعود الحكومات اليمينية في أوروبا بعد إخفاق الاشتراكيين في عدة دول، جعل مسألة القيم والأيديولوجيا الأوروبية المرتبطة بحقوق الإنسان والديمقراطية أولوية، ما أدى إلى تضارب مباشر مع السياسات الإيرانية وأدى إلى تشدد المواقف تجاهها.
إيران كمهدد للأمن الإقليمي والدولي
وقال حمدي إن إيران تهدد الأمن الإقليمي والدولي عبر أذرعها في محور المقاومة، موضحًا أن إيران شنت هجمات على إسرائيل في أبريل وأكتوبر من العام الماضي، وفي حرب يونيو (حرب 12 يومًا)، ولأول مرة تضرب العمق الإسرائيلي بواسطة صواريخ إيرانية، وهو ما لم يحدث حتى في حرب أكتوبر 1973.
“أسطول الظل” الإيراني–الروسي لتجاوز العقوبات
وأضاف حمدي أن إيران وروسيا تتعاونان لتجاوز العقوبات الغربية على النفط من خلال ما يعرف بـ”أسطول الظل”، لإيجاد مؤسسات مالية وقنوات مصرفية جديدة لتصريف النفط الإيراني والروسي، خاصة بعد تشديد العقوبات عقب اندلاع الحرب الأوكرانية.
التهديد الإيراني لأوروبا: صواريخ بعيدة المدى وتحديات أمنية
وأشار حمدي إلى أن قلق الدول الأوروبية زاد مع تطوير إيران صواريخ بمدى يصل إلى 12,000 كيلومتر، ما يمكنها من الوصول إلى العواصم الأوروبية الكبرى مثل باريس ولندن وبرلين، وهو عامل يزيد التوتر الأوروبي تجاه إيران.
إسرائيل: الحليف الاستراتيجي الأول لأوروبا والولايات المتحدة
وأوضح الباحث في الشؤون الإيرانية وسياسات الشرق الأوسط أن إسرائيل تعتبر الحليف الاستراتيجي الأول لأوروبا والولايات المتحدة، وتمثل قاعدة عسكرية متقدمة تحفظ نفوذهم في الشرق الأوسط وتتيح لهم تنفيذ “العمليات القذرة” حسب وصف المستشار الألماني شولتز.
وأضاف أن الموقع الجغرافي لإسرائيل ومواردها من نفط وغاز ومعادن تجعلها مركزًا استراتيجيًا حيويًا، وترتبط بأمن ومصالح القوى الغربية.
الترويكا الأوروبية ودورها في الملف النووي
ولفت حمدي إلى أن بريطانيا وفرنسا وألمانيا تشكل الترويكا الأوروبية، الضالعة في المفاوضات النووية مع إيران وفرض العقوبات، ولها مقاعد ثابتة في مجلس الأمن، بينما تبقى بعض الدول مثل إسبانيا والسويد وبلغاريا وبولندا أقل تشددًا، مع اعتبار السويد قناة اتصال مع الولايات المتحدة عبر سفارتها في إيران.
الاستقطاب الشرق–غرب وتداعياته العالمية
وأكد حمدي أن الموقف الأوروبي المتشدد دفع إيران للتقارب مع روسيا والصين، في استقطاب عالمي بين معسكر شرقي (روسيا والصين وإيران وكوريا الشمالية وربما باكستان) ومعسكر غربي (الولايات المتحدة والدول الأوروبية وإسرائيل)، ما يهدد بتصعيد على عدة جبهات في الشرق الأوسط وأوكرانيا وتايوان، ويظهر جليًا في المؤسسات الدولية مثل مجلس الأمن والأمم المتحدة.
توسيع العلاقات العسكرية الإيرانية مع روسيا والصين وباكستان
وأشار إلى أن إيران توسع علاقاتها العسكرية والتسليحية مع روسيا والصين، بما في ذلك شراء منظومات دفاع جوي وطائرات “ميغ-29″، وأنظمة حرب إلكترونية، إلى جانب التعاون العسكري مع باكستان وأمن الطاقة والحدود والتعاون الاقتصادي والتكنولوجي مع روسيا والصين، وهو ما يُغضب الغرب باعتباره تهديدًا لأمن إسرائيل.
تقييد دور أوروبا في الوساطة النووية
وقال حمدي إن أوروبا لن تلعب دورًا مؤثرًا في الملف النووي الإيراني، لأن إيران لن تغفر إعادة العقوبات الأممية التي رفعت منذ 10 سنوات وأعادت اقتصادها إلى المربع صفر، مؤكدًا أن دور الترويكا سيقتصر على تبادل الرسائل الدبلوماسية فقط، ولن يكون لها القدرة على التأثير الجوهري على السياسات الإيرانية بسبب فقدان الثقة.
انهيار النظام الإيراني: كابوس محتمل للمنطقة وأوروبا
وحذر حمدي من أن السياسة الأوروبية قد تدفع المنطقة نحو صدام مباشر بين إسرائيل وإيران، مشيرًا إلى أن انهيار النظام الإيراني سيكون كارثيًا، حيث قد يتحول حوالي 350 ألفًا من قوات الحرس الثوري إلى جماعات مسلحة تهدد أمن المنطقة وأوروبا، وتؤدي إلى موجات هجرة جماعية وزيادة العمليات الإرهابية والمتطرفة في القارة الأوروبية.
غياب الثقة الأوروبية وإعادة تقييم الدور الدولي تجاه إيران
وأشار الباحث في الشؤون الإيرانية إلى أن كل هذه العوامل تجعل الثقة الأوروبية بإيران شبه معدومة، وأن أي محاولة أوروبية للوساطة في الملف النووي الإيراني ستكون صعبة، مؤكدًا أن المنطقة تتجه نحو مزيد من الاستقطاب بين المعسكرين الغربي والشرقي، مع بروز إيران كقوة فاعلة مع روسيا والصين، مما يعمق الصراع الإقليمي ويدفع إلى إعادة تقييم الدور الأوروبي في السياسة الدولية تجاه الشرق الأوسط وإيران بشكل خاص.