كيف تستغل الجماعات المتطرفة في باكستان الفضاء الرقمي لاستقطاب الشباب
بقلم: د. محمد محمدي توفيق

لم يعد الفضاء الرقمي في باكستان مجرد مساحة للتواصل الاجتماعي أو الترفيه، بل تحوّل خلال السنوات الأخيرة إلى ساحة نشطة للجماعات المتطرفة التي أدركت سريعًا إمكاناته الواسعة في التأثير على العقول واستقطاب الشباب.
هذه الجماعات لم تكتفِ بالخطاب العلني التقليدي، بل طورت أدواتها لتشمل الرسائل المشفرة والمجموعات المغلقة، مستغلة مشاعر التهميش والظلم الاجتماعي لتعزيز خطابها الأيديولوجي وتوسيع قاعدة أنصارها.
يعتمد خطاب التجنيد الإلكتروني على تقنيات نفسية متطورة، حيث تُستخدم مقاطع الفيديو والمواد البصرية باللغات المحلية لإثارة عاطفة المستهدفين، وتقديم الجماعة كحامٍ للهوية أو مدافع عن المظلومين. وبعد مرحلة التأثير الأولي، يُنقل المستهدفون إلى مجموعات مغلقة على تطبيقات مثل “واتساب” و”تيليجرام” حيث يجري تعميق الأفكار الأيديولوجية باستخدام نصوص دينية مؤدلجة أو مواد فكرية متطرفة.
وفي ظل انتشار أدوات التخفي مثل الحسابات الوهمية وشبكات الـVPN، بات من الصعب على السلطات تتبع مصادر هذا المحتوى أو ملاحقة المسؤولين عنه.
الأدلة الميدانية تؤكد أن هذا النشاط الرقمي لم يعد أمرًا هامشيًا. ففي يوليو 2025 أعلنت الحكومة الباكستانية عن تحديد أكثر من 480 حسابًا يديرها أعضاء في جماعات محظورة مثل “طالبان باكستان” و”جيش تحرير بلوشستان”، وطلبت من شركات التواصل الاجتماعي حظرها.
وفي تقارير إعلامية محلية، كُشف عن إغلاق مئات الحسابات الإضافية على منصات مثل “فيسبوك” و”تيك توك” و”تيليجرام” بعد رصد نحو 850 حسابًا كان لها ملايين المتابعين. هذه الأرقام تكشف مدى تغلغل الخطاب المتطرف في الفضاء الرقمي، ومدى خطورته على فئة الشباب تحديدًا.
إلى جانب ذلك، كثفت باكستان تعاونها مع المجتمع الدولي لمواجهة هذا التهديد. ففي فبراير 2025، نظّم مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة تدريبًا لأجهزة إنفاذ القانون الباكستانية لتعزيز قدراتها على رصد النشاط الإرهابي عبر الإنترنت ومواجهته. كما أن “الخطة الوطنية للعمل” (National Action Plan) وضعت أسسًا قانونية لتجريم نشر الدعاية الإرهابية والتحريض الطائفي في الفضاء الرقمي، لكن التطبيق على الأرض يواجه تحديات بسبب الطبيعة المتغيرة للتكنولوجيا وسرعة تكيف الجماعات المتطرفة معها.
الخطر الأكبر في هذا المسار يتمثل في التأثير طويل المدى على الهوية الفكرية للشباب. فالتجنيد لا يحدث دفعة واحدة، بل يمر بمراحل تبدأ بزرع الشعور بالاغتراب والاضطهاد، ثم بناء هوية بديلة أكثر تشددًا، وصولًا إلى تبرير العنف واستخدامه كأداة للتغيير. حتى في الحالات التي لا تكتمل فيها عملية التجنيد، فإن انتشار الخطاب المتطرف يترك أثرًا واسعًا في المجتمع، إذ يهيئ البيئة لتقبل العنف أو التعاطف مع الجماعات المسلحة.
ورغم أن الحكومة الباكستانية اتخذت خطوات في حجب الحسابات وتدريب الكوادر الأمنية، فإن مواجهة هذه الظاهرة تحتاج إلى مقاربة شاملة. الوعي الرقمي للشباب يمثل خط الدفاع الأول؛ فتعليم مهارات التفكير النقدي والقدرة على التمييز بين المحتوى الإعلامي والمحتوى المحرِّض يمكن أن يقلل من فاعلية الدعاية المتطرفة.
كما أن على منصات التواصل نفسها أن تتحمل مسؤولية أكبر في الشفافية، سواء في الإبلاغ عن الحسابات المحظورة أو في تطوير أدوات ذكية لرصد المحتوى المحرّض على العنف بلغات محلية.
التعاون الدولي بدوره ضروري، إذ إن الجماعات المتطرفة لا تلتزم بالحدود الجغرافية. فتبادل المعلومات الاستخباراتية، وتنسيق عمليات إزالة المحتوى، والرقابة على التمويل الإلكتروني كلها أدوات أساسية لتجفيف منابع هذا النشاط.
وفي الوقت ذاته، يمكن استثمار تقنيات الذكاء الاصطناعي لرصد الأنماط اللغوية والرموز المستخدمة في الدعاية المتطرفة، بما يعزز قدرة السلطات على التدخل المبكر قبل أن يترسخ الخطاب في أذهان الشباب.
خلاصة القول، إن استغلال الجماعات المتطرفة في باكستان للفضاء الرقمي لم يعد مجرد تكتيك عابر، بل أصبح جزءًا بنيويًا من استراتيجيتها في استقطاب الأجيال الجديدة.
ولتجنب الانزلاق إلى دوامة عنف جديدة، لا بد من الجمع بين أدوات الرقابة الأمنية والقانونية، وجهود التوعية والتعليم، ومبادرات المجتمع المدني، إلى جانب التعاون مع المؤسسات الدينية المعتدلة التي يمكن أن تلعب دورًا محوريًا في فضح زيف هذه الخطابات. هنا يبرز الدور الذي يمكن أن يضطلع به مرصد الأزهر وغيره من المؤسسات الفكرية في إنتاج محتوى مضاد يحصّن الشباب، ويفضح استغلال الدين لتحقيق أهداف متطرفة، ويعيد توجيه النقاش نحو قيم المواطنة والتعايش.
المقال بقلم: د. محمد محمدي توفيق، مدرس اللغة الأردية بكلية اللغات والترجمة، ومنسق وحدة الرصد باللغة الأردية بمرصد الأزهر لمكافحة التطرف