صالح موتلو شن.. السفير التركي الذي أحب مصر قبل أن يراها
كتبت: هدير البحيري
قصته مع مصر لم تبدأ يوم وصل إلى القاهرة، ولم تولد مع أول اجتماع رسمي أو مفاوضة دبلوماسية.
بل تعود إلى أيام شبابه، خلال دراسته في كلية العلوم السياسية بجامعة أنقرة عام 1980، حين كان شابًا يقتني صحيفة “الأهرام ويكلي” بمصروفه البسيط، ويغوص في صفحاتها باهتمام عميق. كان يقرأ عن بلدٍ لم يزره بعد، لكنه شعر نحوه بانجذاب غامض.
تعمق في تحليلات محمد حسنين هيكل وحوارات الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات حول السلام مع إسرائيل، وكل مقال كان يفتح أمامه نافذة على مصر — على حاضرها وماضيها — ويزيد فضوله نحو لغزها وسحرها.
لكن ما جعل مصر تتغلغل في وجدانه لم تكن المعرفة وحدها، بل كلمات والدته التي كانت تمزح معه حين كان يبالغ في طلباته قائلة: “حتى الملك فاروق ليس لديه هذا.. هل أنت الملك فاروق؟”
كان هذا المزاح الصغير يغرس في قلبه رابطًا عاطفيًا بالمكان والتاريخ، ويحول حبه لمصر إلى جزء من ذاكرته قبل أن يحمل جواز سفره إلى ضفاف النيل.
واليوم، أصبح ذلك الشاب شخصية محورية في العلاقات بين مصر وتركيا. إنه السفير التركي في القاهرة، صالح موتلو شن، الذي حمل معه شغفًا عمره عقود، وسعى لبناء جسور جديدة بين بلدين جمعتهما الثقافة والتاريخ، وجعل من حبه لمصر دافعًا لإعادة رسم خريطة التواصل بين الشعبين والدولتين.
في حوار مع بودكاست 360، استرجع السفير التركي في القاهرة، صالح موتلو شن، ذكريات وصوله إلى مصر في يونيو 2022، بعد تسع سنوات من فتور العلاقات بين البلدين. وأوضح أن مهمة إعادة بناء جسور التواصل لم تكن سهلة، لكنها شكلت فرصة لإحياء العلاقات الثنائية على المستويات الدبلوماسية والثقافية والفنية.
وأشار السفير إلى أن تجربته الدبلوماسية السابقة، سواء في المفاوضات المكثفة مع نظرائه المصريين أو في بناء علاقات شخصية قبل وصوله، ساهمت في نجاحه، مؤكدًا دعم وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، الذي قدم له خارطة طريق واضحة لإدارة العلاقات مع مصر.
وأوضح السفير أن الفن والأدب يمثلان قوة ناعمة قادرة على بناء جسور بين الشعوب، تتجاوز السياسة والدبلوماسية. واعتبر أن الرموز الثقافية المصرية، مثل أم كلثوم، وعمر الشريف، والأديب نجيب محفوظ الحائز على نوبل، ليست مجرد أسماء، بل أرواح خالدة تركت أثرًا عميقًا في الوعي التركي.
وأشار إلى الترابط الثقافي بين مصر وتركيا من خلال التبادل الفني والتاريخي، مستشهدًا بزيارة الفنانة التركية مزين سنار للقاهرة وإقامتها في بيت أم كلثوم، ما جسد قدرة الفن على تجاوز الحدود. كما تركت الموسيقى العثمانية بصماتها في مصر في القرن التاسع عشر، في حين أثرت الموسيقى والسينما المصرية في القرن العشرين على الثقافة التركية، مؤكدة أن الفن والأدب كانا دائمًا جسرًا حقيقيًا بين القلوب.
ولفت السفير إلى أن تاريخ التبادل الثقافي بين البلدين ساهم في تشكيل وعي شعوبهما وبناء جسر يمتد عبر الأجيال، يربط الحاضر بالماضي ويمنح الأمل لمستقبل تعاون مشترك. وقال:
“الاحترام المتبادل لهذه الشخصيات العظيمة هو أساس علاقاتنا، والفن وسيلة لتقارب شعوبنا وفهم بعضها، بعيدًا عن كل سياسات وتحديات اليوم.”
ولم يقتصر حديثه على الفن والثقافة فقط، بل كشف عن جانب شخصي وعاطفي من حياته، مسترجعًا ذكريات والدته التي رحلت بعد صراع طويل مع مرض الزهايمر، قائلًا:
“بكيت عندما توفيت والدتي، رحمها الله، فهي كانت سندي منذ الصغر. تعلمت منها الصبر والتحمل، وهما جوهر النجاح في كل مجالات الحياة.”
وأضاف أن الصبر مفهوم عميق عند العرب والأتراك، يتجاوز الانتظار ليشمل التحمل والتجربة والنضج، وأحيانًا الاحتراق الداخلي. وفي التصوف التركي يقولون: “كنت نيئًا ثم أصبحت، ثم نضجت، ثم احترقت”.
كما أعرب السفير عن تقديره لدفء المصريين وحنانهم تجاه عائلته منذ وصوله، ما جعل القاهرة تبدو كبيته الثاني، مضيفًا:
“هذه اللحظات تعكس روح الكرم والضيافة المصرية، وتجعل العلاقات بين الشعوب تجربة حية ومؤثرة”.
تركيا ومصر: شراكة استراتيجية لتحقيق الاستقرار الإقليمي
أكد السفير التركي، موتلو شن، أن بلاده تتبنى نهجًا متوازنًا في القضايا الإقليمية، يقوم على الحوار والتعاون مع مصر لتحقيق الاستقرار في المنطقة.
وفيما يخص الملف الليبي، أوضح السفير أن تركيا تتواصل مع جميع الأطراف الليبية شرقًا وغربًا وجنوبًا، وتنسق مع القاهرة لدعم العملية السياسية برعاية الأمم المتحدة. وأشار إلى فتح قنصلية في بنغازي وتشغيل رحلات مباشرة، ضمن خطوات تهدف إلى تعزيز الاستقرار “بصبر ومثابرة، لأن التقدم يتحقق تدريجيًا”.
وأضاف أن التعاون بين أنقرة والقاهرة يمتد إلى منطقة شرق المتوسط، خاصة في ملف ترسيم الحدود البحرية واكتشافات الغاز، بما يعكس احترام المصالح المشتركة ويعزز التوازن الإقليمي. وشدد على أن مهمته في القاهرة تقوم على ترسيخ هذا التعاون التاريخي والثقافي بروح الاحترام المتبادل ورؤية استراتيجية طويلة المدى.
سوريا: أولوية الوحدة والتنسيق العربي
حول الأزمة السورية، أكد السفير أن تركيا تدعم انتقالًا سياسيًا سلميًا يضمن وحدة الأراضي السورية وعودة اللاجئين، ويحمي الحدود التركية من أي تهديدات.
وأشار إلى أن التحديات لا تزال قائمة بسبب التدخلات الخارجية والانقسامات في الشمال الشرقي، لكنه شدد على أهمية الدور المصري والعربي في دعم إعادة الإعمار واستعادة الخدمات الأساسية. وأضاف: “هدفنا المشترك هو سوريا موحدة وآمنة، وشراكة إقليمية تضع الإنسان قبل السياسة”.
فلسطين وغزة: الإنسانية أولًا
وفيما يتعلق بقطاع غزة، شدد السفير على أن الموقف التركي إنساني بالدرجة الأولى، ويركز على وقف نزيف الدم وضمان وصول المساعدات وإعادة تأهيل البنية التحتية.
وأوضح: “أي استهداف للمدنيين أو انتهاك لقوانين الحرب مرفوض تمامًا”، مشيرًا إلى أن الهدف النهائي هو تحقيق سلام عادل يقوم على حل الدولتين وحقوق الفلسطينيين المعترف بها دوليًا، مع تقييم موضوعي للمسؤوليات بعد استقرار الأوضاع.
التسليح والدفاع: الردع والحماية، لا الهيمنة
شدد السفير التركي، صالح موتلو شن، على أن التعاون الدفاعي بين مصر وتركيا يقوم على أساس حماية السيادة وضمان التوازن الإقليمي، وليس السعي للهيمنة.
وأضاف: “مصر وتركيا دولتان راسختان، لهما تاريخ عريق، وأولوية قيادتيهما هي التنمية ورفاهية الشعب. تطوير قدراتنا الدفاعية يهدف إلى الردع وحماية سيادتنا، وليس فرض السيطرة على الآخرين”.
وأوضح السفير حق كل دولة في تطوير صناعاتها الدفاعية محليًا، متسائلًا: “لماذا تحتكر دول معينة أنظمة القتال؟ لماذا لا نمتلك نحن طائرات ومروحيات ودبابات ومنظومات دفاع جوي وسفن وغواصات مصممة بخبراتنا؟ هذا حق سيادي نؤمن به، ونسعى لتوحيد مواردنا وتقنياتنا مع شركائنا لإنتاج أنظمة أصلية تعزز استقلاليتنا الدفاعية، كما تفعل دول كبرى أخرى”.
وأكد موتلو شن أن التعاون العسكري بين مصر وتركيا يجب أن يُفهم كخطوة للحماية والتوازن، لا تهديدًا، مضيفًا: “الردع وتوازن القوى عنصران أساسيان لمنع الفوضى وحماية الأمن الإقليمي. هذه التحركات تهدف إلى منع أي طرف من فرض هيمنته، والحفاظ على استقرار المنطقة، لا أكثر”.
إحياء الذاكرة المشتركة: من المخطوطات إلى الأجيال الجديدة
وقال السفير التركي: “خلال دراستي المتعمقة للتاريخ المشترك بين بلدينا، حددت حوالي خمس وعشرين شخصية تاريخية عظيمة استلهمت ونمت في كلا البلدين، وقمت برسم لوحات حية وواقعية لكل شخصية، وعلقتها في السفارة لتكون مصدر إلهام تربوي وثقافي للأجيال القادمة”.
وأضاف السفير أن مصر وتركيا تمتلكان مصادر أصيلة وقيمة للتاريخ المشترك، من مخطوطات وكتب وذكريات محفوظة، مشيرًا إلى اكتشافه كتاب “آثار البشر” للمؤرخ العثماني محمد عارف باشا – أحد كبار رجال الدولة في القرن التاسع عشر – الذي يوثق أحداثًا وشخصيات بارزة في مصر وتركيا خلال تلك الحقبة، وقد أُعيد نشره وتوثيقه ليكون متاحًا للقراء اليوم.
كما تطرق إلى كتاب “عائلة واحدة عبر ثلاثة قرون“، الذي كتبته أمينة فؤاد توجاي، حفيدة الخديوي إسماعيل، مشيرًا إلى أنه يوثق سيرة عائلتين في مصر وتركيا، ويسلط الضوء على التقاليد والعلاقات الثقافية المشتركة بين البلدين، واعتبر نشر الكتاب وترجمته إلى العربية إسهامًا في تعريف الأجيال الجديدة بتاريخ الروابط المصرية التركية.
ترك أثر دائم: دبلوماسية تقوم على الثقافة والتقدير المتبادل
وأوضح السفير أنه يشعر بشرف كبير لحماية هذا التاريخ والاعتناء به، مضيفًا:
“مصر منحتني شرف الحفاظ على إرث أجدادنا المشتركين واحتضان تاريخنا العريق، وهو شرف يساوي عمراً بأكمله”.
وختم السفير بالقول: “دوري لا يقتصر على السياسة والدبلوماسية فقط، بل أسعى لترك أثر دائم في التاريخ المشترك بين مصر وتركيا، في مجالات الثقافة والفن والتعليم”.
بهذه الكلمات، يلخص صالح موتلو شن فلسفته في العمل الدبلوماسي: فالعلاقات بين الدول لا تُبنى بالمفاوضات والاتفاقيات وحدها، بل عبر العقول التي تدرك قيمة التاريخ والثقافة والإنسانية.
ومن شغف شاب تركي قرأ عن مصر في الصحف، إلى سفير يسعى لترميم ذاكرة مشتركة بين ضفتي المتوسط، تبقى حكايته شاهدًا على أن الدبلوماسية الحقيقية تبدأ بفهم الآخر، قبل أي اتفاق.



