أخبار دوليةتقارير

تركيا تطلق أول محطة نووية ..ماذا يعني ذلك للإقليم والعالم؟

كتبت: هدير البحيري

في خطوة تاريخية تُعد الأضخم في تاريخ الطاقة التركية، تقترب تركيا من تشغيل أول محطة نووية وطنية لها، “آق قويو”، الواقعة في ولاية مرسين جنوب البلاد.

لا يمثل المشروع مجرد إضافة إلى شبكة الكهرباء الوطنية، بل يُعد رمزًا للاستقلالية التكنولوجية والطاقة المستدامة، ويعكس رؤية أنقرة لتعزيز الأمن الطاقي وتقليل الاعتماد على واردات الطاقة الأجنبية.

ويأتي هذا المشروع الضخم ضمن “مبادرة التكنولوجيا الوطنية”، كركيزة أساسية لبرنامج نووي محلي يهدف إلى تعزيز أمن الطاقة ودعم أهداف الحياد الكربوني، ويشكل علامة فارقة في مسار تركيا نحو الاستقلالية الطاقية وتحقيق التنمية المستدامة.

خطط توسعية حتى 2050

تستعد أنقرة لتشغيل أولى وحدات المحطة بقدرة 4.800 ميجاواط بنهاية عام 2025، في خطوة تهدف إلى رفع مساهمة الطاقة النووية إلى 15–20% من إنتاج الكهرباء بحلول عام 2035.

وتطمح الحكومة التركية لزيادة القدرات النووية إلى 7.2 جيجاواط خلال نفس الفترة، مع التوسع إلى 20 جيجاواط بحلول عام 2050، من خلال إدخال 5 جيجاواط من المفاعلات المعيارية الصغيرة.

كما تشمل الخطط إبرام صفقات خاصة بمحطتي “سينوب” و”تراقيا” قبل نهاية عام 2025، مع التركيز على التوطين والتمويل، إلى جانب إنشاء محطتين إضافيتين وإطلاق أول “مجمع تكنولوجي نووي” لدعم الابتكار المحلي وتعزيز القدرات الوطنية في مجال الطاقة النووية.

“آق قويو” لدعم التنمية المستدامة وتعزيز القطاعات الحيوية

تهدف مبادرة “آق قويو” إلى تلبية الطلب المتزايد على الطاقة، وخفض الانبعاثات الكربونية، وتقليل الاعتماد على واردات الطاقة، من خلال مفاعلات عالية التقنية تُطور بمساهمة “الهيئة التركية لأبحاث الطاقة والطاقة النووية والتعدين”، و”مجلس البحوث العلمية والتكنولوجية”، وعدد من الجامعات المحلية.

ويأتي ذلك ضمن جهود تركيا لتعزيز إمدادات طاقة آمنة وخالية من الكربون، بما يدعم قطاعات استراتيجية مثل الذكاء الاصطناعي، والدفاع، والصناعات الكيماوية والفولاذ، ويسهم في تحقيق أهداف التنمية المستدامة.

وتشير التقديرات إلى أن الطاقة النووية ستغطي نحو 29% من احتياجات الكهرباء بحلول منتصف القرن، في إطار مساعي تركيا لتحقيق الحياد الكربوني بحلول عام 2053.

تعاون تركي–روسي لتشغيل أربع وحدات نووية بمواصفات متقدمة

بدأت أولى مراحل بناء محطة “آق قويو” في أبريل 2023، ضمن اتفاقية موقعة مع روسيا عام 2010، لتشغيل أربع وحدات بقدرة 1200 ميجاواط لكل منها من طراز VVER-1200 من الجيل 3+.

ومن المتوقع أن تنتج المحطة نحو 35 مليار كيلوواط ساعة سنويًا، ما يغطي حوالي 10% من احتياجات الكهرباء في تركيا.

وأكد مدير عام شركة “آق قويو”، سيرجي بوتتشخ، أن العمل مستمر بوتيرة متقدمة، مع التركيز حاليًا على إنجاز المفاعل الأول ودخوله مرحلة التفعيل، متوقعًا الانتقال إلى التشغيل الفعلي بعد الانتهاء من اختبارات المعدات وفحص عملياتها لضمان أعلى معايير السلامة.

استثمارات محلية وتوطين الصناعة النووية

شارك أكثر من ألفي شركة تركية في المشروع، ووصل حجم التوطين إلى نحو 10 مليارات دولار، حسب رئيس جمعية الصناعات النووية التركية، أليقان تشفتشي.

ويعد هذا التوطين مؤشرًا على الإمكانات الضخمة للصناعة النووية الوطنية ويمهد الطريق أمام تركيا لتصبح مصدرًا للتكنولوجيا والخبرة النووية مستقبلًا.

ويعكس المشروع أيضًا دوره في دعم سوق العمل، من خلال خلق أكثر من 4 آلاف فرصة عمل مباشرة وغير مباشرة، ما يسهم في تعزيز الاقتصاد المحلي.

ومن جانبه، أكد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن تشغيل المحطة سيسهم بإضافة نحو 50 مليار دولار للناتج المحلي الإجمالي، ويقلل اعتماد تركيا على واردات الغاز الطبيعي بنحو 7 مليارات متر مكعب سنويًا.

وأشار أردوغان إلى أن المشروع جزء من رؤية تركيا للارتقاء إلى مصاف الدول ذات الدخل المرتفع بشكل دائم، مع الالتزام بخفض التضخم.

استدامة بيئية وطاقة طويلة الأمد

يبلغ العمر التشغيلي لمحطة “آق قويو” 60 عامًا، مع إمكانية التمديد لمدة 20 عامًا إضافية، ما يضمن إنتاجًا مستمرًا للكهرباء دون انبعاثات للغازات الدفيئة.

وتشير التقديرات إلى أن المحطة ستمنع نحو 2.1 مليار طن من انبعاثات الكربون خلال فترة تشغيلها، ما يعكس مساهمتها الفعالة في دعم أهداف تركيا للحياد الكربوني 2053 وتعزيز التنمية المستدامة.

الطاقة النووية ركيزة استراتيجية لتركيا في التنمية المستدامة

أكد وزير الطاقة والموارد الطبيعية التركي، ألب أرسلان بايراقتار، أن تركيا ملتزمة بشكل كامل بالاستخدام السلمي للطاقة النووية، وأن هذه التكنولوجيا تشكل ركيزة أساسية في استراتيجية البلاد طويلة المدى للطاقة، المبنية على مبادئ التنمية المستدامة، وضمان أمن الطاقة، وتحقيق صافي انبعاثات صفرية بحلول عام 2053.

وأشار بايراقتار إلى أن الطلب على الكهرباء في تركيا من المتوقع أن يتضاعف ثلاث مرات خلال الثلاثين عامًا المقبلة، مؤكدًا دعم تركيا للهدف العالمي المتمثل في مضاعفة الطاقة النووية ثلاث مرات بحلول منتصف القرن، مع التعاون المستمر مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية في تبادل الخبرات وبناء القدرات التقنية.

كما شدد بايراقتار على التزام تركيا بتعزيز البحث العلمي النووي لأغراض سلمية، وزيادة استخدام مفاعل البحث في تشيكمجه بإسطنبول، مع التأكيد على أهمية الطاقة النووية في مجالات الصحة والزراعة والأمن الغذائي، وإدارة المياه، وحماية البيئة.

وأشار وزير الطاقة والموارد الطبيعية التركي إلى مشاركة تركيا في مبادرة  “Atoms4Food”، مع الاعتراف بالهيئة الوطنية التركية للبحث العلمي في مجال الطاقة النووية (TENMAK) كأحد المراكز المتعاونة رسميًا مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية.

واختتم بايراقتار تصريحاته مؤكدًا على الالتزام المستمر بالتعاون الوثيق مع الوكالة وكافة الدول الأعضاء لضمان الاستخدام الآمن والمأمون والسلمي للطاقة النووية على مستوى العالم، مضيفًا: “معًا، من خلال المسؤولية المشتركة والدعم المتبادل، يمكننا استغلال كامل إمكانات الطاقة النووية لمواجهة تغير المناخ ودعم التنمية العالمية”.

تركيا وروسيا تعززان علاقاتهما عبر مشروع نووي عالي التقنية

من جانبه، وصف السفير الروسي لدى أنقرة، أليكسي إرخوف، المشروع بأنه “نجاح مشترك للشعبين التركي والروسي”، مشيدًا بالتقدم الكبير منذ بدء البناء عام 2017.

ووصفت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا المشروع بأنه معلم استراتيجي بارز يشهد نقلة نوعية في تاريخ العلاقات الروسية–التركية.

وأكدت زاخاروفا خلال مؤتمر صحفي في موسكو أن التعاون في قطاع الطاقة وصل إلى مستوى شراكة حقيقية واستراتيجية، مشيرة إلى أن روسيا، كأحد أبرز موردي الغاز الطبيعي لتركيا، ترى في المشروع محطة رائدة عالية التقنية تعزز الشراكة متعددة الأبعاد بين البلدين.

خبير في الشؤون التركية: آق قويو.. ورقة قوة جديدة لتركيا

 

قال الخبير في الشؤون التركية، والباحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية، شعبان عبدالفتاح، في حديث خاص لـ”داي نيوز” إن إطلاق محطة “آق قويو” النووية يعكس رغبة أنقرة في تعزيز استقلالها الطاقي وتقليل الاعتماد على واردات الطاقة، مشددًا على أن الرسالة الأساسية من هذا المشروع هي أن تركيا باتت تدخل نادي الدول المتقدمة تكنولوجيًا في مجال الطاقة النووية.

وأضاف عبدالفتاح أن المشروع يؤكد قدرة أنقرة على تنفيذ مشاريع استراتيجية طويلة الأمد تخدم أمنها الطاقي والتنمية الاقتصادية، فضلًا عن سعيها لإثبات مكانتها كلاعب تقني واستراتيجي على الصعيدين الإقليمي والدولي.

وأشار عبدالفتاح إلى أن المشروع قد يثير قلق بعض دول الجوار والاتحاد الأوروبي، خاصة فيما يتعلق بقضايا السلامة النووية والتأثيرات البيئية، وكذلك المخاوف المتعلقة بنقل التكنولوجيا النووية أو استخدامها في أغراض غير سلمية. لكنه أوضح أن التزام تركيا بعضويتها في الوكالة الدولية للطاقة الذرية ومعاييرها الصارمة يقلل من حدة هذه المخاوف، ويؤكد أن أنقرة تتقدم في مسارها النووي وفق قواعد واضحة ومسؤولة.

الخبير في الشؤون التركية والعلاقات الدولية شعبان عبدالفتاح
الخبير في الشؤون التركية والعلاقات الدولية شعبان عبدالفتاح

وحول البعد الداخلي للمشروع، أوضح الخبير في الشؤون التركية أن أردوغان سيوظف “الإنجاز النووي” كرمز للإنجاز الوطني والقدرة التقنية التركية، بما يعزز صورته كقائد يسعى لتحقيق الاستقلال الاقتصادي والتكنولوجي.

وأكد عبدالفتاح أن المشروع سيساعد أيضًا في خلق فرص عمل جديدة وجذب الاستثمارات، فضلًا عن كونه ورقة مهمة لإظهار تركيا كقوة فاعلة في التكنولوجيا النووية على المستويين الإقليمي والدولي، مما يمنح أردوغان أداة قوية لتعزيز شرعيته السياسية.

وقال عبدالفتاح إن أبرز التحديات التي قد تواجه تركيا في تنفيذ استراتيجيتها النووية تتمثل في ثلاثة محاور رئيسية؛ أولها التمويل، حيث تُعد مشروعات الطاقة النووية من أكثر الاستثمارات تكلفة وتتطلب التزامات مالية ضخمة طويلة الأمد، وهو ما يمكن تجاوزه عبر الشراكات الدولية والقروض الميسرة.

ويرى عبدالفتاح أن المحور الثاني يتعلق بالتكنولوجيا، إذ إن بناء وتشغيل المفاعلات النووية يحتاج إلى خبرات متقدمة، وهو ما يدفع أنقرة للاعتماد على التعاون مع الدول ذات التجارب الطويلة في هذا المجال من أجل تدريب وتأهيل كوادرها المحلية.

وأضاف عبد الفتاح أن التحدي الثالث يرتبط بالمخاطر البيئية والأمنية، سواء ما يخص إدارة النفايات النووية أو تأمين المنشآت ضد التهديدات المحتملة، وهو ما يستوجب تطبيق أعلى معايير السلامة النووية، إلى جانب بناء نظام رقابي صارم يضمن الشفافية أمام المجتمعين الدولي والمحلي.

واختتم عبد الفتاح حديثه بالتأكيد على أن نجاح أنقرة في إدارة هذه التحديات سيجعل من مشروع “آق قويو” نموذجًا استراتيجيًا يعزز استقلالها النووي ويكرس موقعها كلاعب إقليمي ودولي مؤثر في قطاع الطاقة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى