مقالات

أفغان فيلم في براثن طالبان: ذاكرة الأمة الأفغانية في مهب الريح

بقلم: د/ محمد سيف الدين – كاتب وإذاعي

في خطوة جديدة تستهدف تضييق الخناق على الفنون والثقافة في أفغانستان، وتهدد بضياع الأرشيف السينمائي في هذا البلد، قامت “حركة طالبان” بحل مؤسسة “أفغان فيلم” وتغيير اسمها إلى “مديريت سمعى و بصرى: إدارة الصوتيات والمرئيات”.

وكان مصدران مطلعان من داخل مؤسسة “أفغان فيلم” قد أفادا بأن حكومة طالبان حلت هذه المؤسسة السينمائية العريقة وأغلقت مكتبها في كابُل.

ووفقًا لبعض التقارير، فإن طبيعة هذه المؤسسة وأنشطتها ستختلفان عن الماضي مع تغيير اسمها وهيكلها الإداري ومحتواها الفني.

وكانت المخرجة الأفغانية “صحراء كريمي”، الرئيسة السابقة لأفغان فيلم، قد كتبت يوم الثلاثاء 13 مايو 2025م عبر صفحتها الشخصية بمنصة (إكس): إن حكومة طالبان حذفت بشكل كامل اسم مؤسسة “أفغان فيلم” التي لها سابقة تاريخية طويلة في إنتاج الأعمال السينمائية الأفغانية، حيث قزمت هذه المؤسسة الكبيرة إلى وحدة صغيرة تحت مسمى “إدارة الصوتيات والمرئيات”. عقب تغيير الهيكل الإداري والمحتوى الفني، سرحت طالبان معظم العاملين بالمؤسسة، وأبقت على عدد قليل منهم تقتصر مهامهم على تلبية متطلبات طالبان الدعائية والإعلامية.

وتابعت “كريمي” في منشورها المطول: لقد تأسست “أفغان فيلم” عام 1968م، وكانت المؤسسة الرسمية الوحيدة في أفغانستان المنوط بها إنتاج الأعمال السينمائية وتسجيلها وحفظها وأرشفتها، حيث لعبت دورًا محوريًا في تشكيل ذاكرة البلاد البصرية، وتوثيق تطوراتها التاريخية، وتسجيل أحداثها الاجتماعية. على الرغم من التقلبات والانقلابات السياسية في أفغانستان، فقد استطاعت “أفغان فيلم” الاستمرار في نشاطها عبر العقود المختلفة؛ بداية من الحقبة الملكية حتى الحقبة الجمهورية، والحفاظ على كنز ثمين من الأفلام الوثائقية والروائية والإخبارية والأرشيفية.

 

صحراء كريمي

وذكرت الرئيسة السابقة لأفغان فيلم: في ظل غياب البنية التحتية الإعلامية الواسعة في أفغانستان، كانت “أفغان فيلم” تمثل المرجع الرسمي الوحيد الخاص بإنتاج المحتوى البصري والثقافي في البلاد، كما ولد من رحم هذه المؤسسة العديد من المخرجين والفنانين الأفغان البارزين.

وأوضحت المخرجة الأفغانية: إن حذف اسم “أفغان فيلم” وتصفية هيكلها الإداري ونشاطها السينمائي يعد ضربة قاصمة للتاريخ الثقافي والسينمائي الأفغاني، حيث يشمل أرشيف “أفغان فيلم” المجموعة البصرية الوحيدة للأحداث السياسية والاجتماعية والثقافية في أفغانستان خلال القرن الماضي، وهو الآن يواجه خطر التدمير أو المصادرة الأيديولوجية.

وختمت “صحراء كريمي” منشورها قائلة: إن حذف اسم مؤسسة “أفغان فيلم” وطمس هويتها الفنية هو مؤشر واضح على محاولات طالبان الرامية إلى التطهير الثقافي، وتشويه الذاكرة الجماعية، والسيطرة المطلقة على المواد المرئية والإعلامية والسينمائية في البلاد. في الحقيقة هذه العملية جزء من سياسة أوسع نطاقًا تسعى فيها طالبان، عبر تصفية المؤسسات الثقافية والفنية والسينمائية، إلى خلق رواية رسمية موحدة عن المجتمع والتاريخ ودور النساء والأقليات والفنانين؛ وهي رواية تتنافى مع الواقع، لكنها تخدم ترسيخ الهيمنة الطالبانية على مفاصل الدولة.

يُذكر أن “حركة طالبان” منذ استعادة السيطرة على أفغانستان مرة أخرى عام 2021م، فرضت قيودًا صارمةً على الفنون والثقافة والسينما والموسيقى ووسائل الإعلام. ووفقًا لقانون “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” في شريعة هذه الجماعة “المتطرفة”، يعد التقاط صور الكائنات الحية ونشرها أمرًا محرمًا ومحظورًا تمامًا.

مؤسسة أفغان فيلم: ذاكرة أفغانستان البصرية

تمثل مؤسسة “أفغان فيلم” أهمية كبيرة لأفغانستان سواء من الناحية التاريخية والثقافية أو الناحية الفنية والسينمائية، حيث تضم أفلامًا وثائقية تعود إلى حقبة الحرب العالمية الأولى، والحرب الأفغانية البريطانية، ورحلات الملك “أمان الله خان” إلى أوروبا منذ بداية عهده عام 1919م.

كما يحوي أرشيف المؤسسة أفلامًا وثائقية عديدة صُورت خلال فترات حكم “محمد ظاهر شاه”، آخر ملوك أفغانستان، و”محمد داوود خان”، أول رئيس جمهورية للبلاد، وسلطة فصيلي “خلق: الشعب” و”پرچم: الراية” التابعين للحزب الديمقراطي الشعبي ذي الأيديولوجيات الشيوعية.

بالإضافة إلى ذلك، توجد أفلام وثائقية أخرى عن المباني التاريخية والتراثية والدينية والثقافية الأفغانية.

وفي هذا السياق، يقول مخرج الأفلام الوثائقية والناقد السينمائي الأفغاني “حسين دانِش”: كانت “أفغان فيلم” إحدى مراكز الحداثة في أفغانستان. يحتفظ فيها الشعب الأفغاني بذكريات عديدة، تروي مقاطع مختلفة من تاريخ البلاد. إنها في الحقيقة ذاكرة أفغانستان البصرية.

حسين دانش

 

إدارة الصحافة المستقلة

تأسس في عهد “محمد ظاهر شاه” قسم خاص بالتصوير الفوتوغرافي والفيديوغرافي يُسمى “اداره مطبوعات مستقل: إدارة الصحافة المستقلة”. وفي عام 1950م، سافر خبيران أمريكيان إلى كابل لتدريب موظفي هذه الإدارة على التصوير الفوتوغرافي والفيديوغرافي. كما دُعي أستاذ أو أستاذان محترفان من الهند للمشاركة في التدريبات.

كان الأفغانيون الذين تلقوا فنون التصوير، يلتقطون صورًا فوتوغرافية من مواقع الأحداث الحكومية المختلفة من أجل نشرها في الصحف والمطبوعات آنذاك، كما كانوا يسجلون مقاطع مصورة عن رحلات الملك “محمد ظاهر” ورئيس الوزراء “محمد داوود خان”.

أما عملية تحميض الأفلام وتحويلها إلى شرائط مصورة فلم تكن متاحة في أفغانستان، حيث كانت تُرسل على مدار 15 عامًا إلى الولايات المتحدة عبر الهند، من أجل تحميضها وتجهيز عرضها على الشاشات، وذلك بموجب اتفاقية مبرمة بين كابل وواشنطن. كانت هذه العملية تستغرق ما بين 3 إلى 4 أشهر حتى تُجهز الأفلام وتعود مرة أخرى إلى أفغانستان.

انطلاق “أفغان فيلم

في عام 1965م، طلب “محمد ظاهر شاه” من السفير الأمريكي في كابل إنشاء معمل تحميض أفلام بأفغانستان. بموافقة الرئيس الأمريكي آنذاك “ليندون بي. جونسون” Lyndon B. Johnson، تولت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) مهمة تنفيذ هذا المشروع، وفي العام نفسه، وُضع حجر أساس مؤسسة “أفغان فيلم”.

بعد 3 سنوات، أُنشئت شركة وإستوديو إنتاج “أفغان فيلم” في عام 1968م، وعُين “سلطان حميد هاشم” مصور البلاط الملكي المحترف، كأول رئيس للمؤسسة الجديدة.

شرع الأفراد المُدَرَّبون وأصحاب الخبرة في مجال التصوير الفوتوغرافي وصناعة الأفلام من المشتغلين في “إدارة الصحافة المستقلة” في العمل بأفغان فيلم.

يُقال إن الملك نفسه “محمد ظاهر” كان مهتمًا بفن السينما، وكان يحضر أحيانًا لمشاهدة الأفلام في قاعة “أفغان فيلم”.

في البداية، لم تكن الأفلام المنتجة فنية أو قصصية، بل كانت “تقارير إخبارية” تتناول الأحداث السياسية والاجتماعية والثقافية في أفغانستان، وتُعرض في دور العرض قبل الأفلام الأجنبية. هذا بالإضافة إلى بعض الأفلام الوثائقية التي كانت تُنتج عن الأحداث المهمة في البلاد.

روزگاران: أول فيلم سينمائي في أفغانستان

روزگاران “الأيام” هو أول فيلم أفغاني روائي طويل، قامت بإنتاجه مؤسسة “أفغان فيلم” عام 1969م، وعُرض في دور العرض بكابل. الفيلم مكون من 3 حكايات منفصلة؛ كل حكاية لها اسم وطاقم عمل مختلف عن الأخرى.

الحكاية الأولى تحمل اسم “طلبگار: الدائن” ومدتها 39 دقيقة. تدور أحداثها حول شاب محتال يبالغ في حسبه ونسبه ويدعي الانحدار من عائلة ثرية من أجل الزواج من فتاة جميلة، لكن أسرتها تكتشف خدعته.

الحكاية الثانية تحمل اسم “شب جمعه: ليلة الجمعة”، ومدتها 31 دقيقة. تدور أحداثها حول وليمة عشاء تقام مساء الجمعة بين خطيب وأهل خطيبته في أجواء مفعمة بالرقص والغناء والبهجة.

الحكاية الثالثة تحمل اسم “قاچاقبران: المهربون”، ومدتها 53 دقيقة. تدور أحداثها حول عصابة من المهربين يخططون للقيام بعملية كبيرة، لكن شرطيًا شجاعًا يكتشف مخططهم ويلقي القبض عليهم.

عقب فيلم “روزگاران”، توالت أعمال “أفغان فيلم”، وفيما بعد شَكَّلت هذه المؤسسة إدارة باسم “اداره سیار: الإدارة المتنقلة” كي تعرض التقارير الإخبارية والمواد المسجلة على الناس القاطنين في المناطق النائية بالبلاد باستخدام أجهزة البروجيكتور والجينيراتور.

يقول مسؤولون سابقون في “أفغان فيلم” إنه بداية من عام 1968م خلال فترة حكم “محمد ظاهر شاه” حتى عام 1996م حين وصلت “حركة طالبان” إلى سدة الحكم أول مرة، أُنتج 37 فيلمًا روائيًا وأكثر من 100 فيلم وثائقي.

هناك اعتقاد سائد في أفغانستان بأن سنوات ازدهار مؤسسة “أفغان فيلم” من حيث الإنتاج والمحتوى والنشاط الفني كانت خلال فترة حكم الحكومة الشيوعية بقيادة الحزب الديمقراطي الشعبي، المدعوم من قبل الاتحاد السوفيتي، لأن ما بين عامي 1980 و1992م، كان يُنتج من 3 إلى 4 أفلام سنويًا.

خلال تلك الفترة ازداد اهتمام الأفغانيين بالسينما، وحصل عدد كبير منهم على دورات تدريبية في مجال السينما بتشيكوسلوفاكيا وبلغاريا وبولندا.

من أشهر الأعمال السينمائية التي أنتجتها مؤسسة “أفغان فيلم” في تلك الفترة، فيلم “رابعه بلخى: رابعة البلخية”، “پسر بیوه: ابن الأرملة”، المعروف باسم “شاد گل”، “اختر مسخره: أختر الساخر”، “گُناه: الذنب”، “مجسمه‌های می‌خندند: التماثيل الضاحكة”، “مردها ره قول: رجال صادقو الوعد”.

كان محتوى معظم هذه الأفلام دعائيًا، وفي هذا السياق، يقول الناقد الفني “حسين دانش”: لقد شوهت هذه الأفلام التي كانت تروج للحكومة الأفغانية آنذاك، تاريخ “أفغان فيلم” إلى حد ما.

في ثمانينيات القرن الماضي، فازت بعض الأفلام الأفغانية بعدد من الجوائز في مهرجانات دول الاتحاد السوفيتي وألمانيا الشرقية.

كان أول هذه الجوائز عام 1986م، حيث حصل فيلم “پرنده‌های مهاجر: الطيور المهاجرة” للمخرج “لطيف أحمدي” على جائزة “السلام والصداقة” من مهرجان القارات الثلاث (آسيا، أفريقيا، أمريكا اللاتينية) Le Festival des 3 Continents المقام بمدينة “نانت (نانُطس)” Nantes الفرنسية. لكن أغلب هذه الجوائز كانت تشجيعية وليست تنافسية.

كانت “أفغان فيلم” في عهد “محمد ظاهر شاه”، آخر ملوك أفغانستان، مؤسسة مستقلة، لكنها اندمجت مع وزارة الإعلام والثقافة في عهد خليفته، “محمد داوود خان” أول رئيس جمهورية لأفغانستان.

تولى رئاسة “أفغان فيلم” على مر العصور المختلفة عدد من الشخصيات السينمائية الأفغانية البارزة؛ من بينهم: سلطان حميد هاشم، صمد آصفي، خالق عليل، عبد الواحد نظري، صِدِّيق برمك (فترتين)، لطيف أحمدي (فترتين)، إبراهيم عارفي، صحراء كريمي (آخر رئيسة قبل عودة حركة طالبان إلى الحكم عام 2021م).

أفغان فيلم في زمن الحكومات الإسلامية

التحولات السياسية المتسارعة وتغير الأنظمة المستمر في أفغانستان ألقى بظلاله على مؤسسة “أفغان فيلم” وأثر على نشاطها بشكل كبير.

في عهد الرئيس “برهان الدين رباني”، زعيم المجاهدين إبان الغزو السوفيتي لأفغانستان، تمكنت هذه المؤسسة من مواصلة نشاطها، على الرغم من حضور المرأة الضعيف في السينما الأفغانية خلال تلك الفترة.

من أهم أعمال “أفغان فيلم” في تلك المرحلة فيلم “العروج” للمخرج “صديق برمك”، وفيلم “سرگردان کوچه‌ها: المتجول في الأزقة” للمخرج “أحد جوند”.

خلال الحرب الأهلية الأفغانية تعرض مبنى “أفغان فيلم” للقصف عدة مرات، لكن السينمائيين الأفغانيين يعتبرون فترة حكم حركة طالبان خاصة حكومتهم الأولى (1996: 2001م)، هي الأصعب في تاريخ هذه المؤسسة والسينما الأفغانية بشكل عام.

خلال تلك الفترة، أصدر المُلا “محمد عمر”، زعيم حركة طالبان، أمرًا بتدمير أرشيف “أفغان فيلم”. مع ذلك، تمكن عدد من العاملين بالمؤسسة من إنقاذ نسخ الأفلام الأصلية وأرشيف المؤسسة وإخفائهما عن عيون طالبان المتربصة بهم.

في عام 2018م، انتقل أرشيف “أفغان فيلم” إلى القصر الجمهوري، بأمر من الرئيس السابق “محمد أشرف غني”، مما أثار ردود فعل معارضة من قبل النقاد والفنانين والمثقفين الأفغانيين. لا يزال الأرشيف موجودًا في القصر الرئاسي حتى الآن، وتقول حركة طالبان إنه محفوظ في مكان آمن؟!

يقول الناقد الفني “حسين دانش”: إن غياب الاستثمار في أفغانستان خاصة خلال 20 سنة ماضية، وقلة المنتجين المؤهلين والمحترفين، واضطراب الأوضاع السياسية وانعدام الأمن بالبلاد، كان من أهم التحديات أمام “أفغان فيلم”. كما أن الحكومات في الحقبة الجمهورية لم تهتم بصناعة السينما، بحجة أن المجال كان مفتوحًا أمام الجميع ليفعلوا كل ما يشاءون.

وفقًا لما يذكره “دانش”، في عام 1970م، كان في كابل 18 دار عرض سينمائية ومسرحية، مع أن عدد سكان العاصمة لم يتجاوز 400 ألف نسمة. وكانت هناك كذلك صالات سينما ناشطة في ولايات هرات، وبلخ، وقندوز، ومزار شريف، وبغلان، وعدة مدن أخرى. لكن بحلول عام 2020م، لم يتبق في كابل سوى 5 صالات سينما ناشطة فقط.

في عام 2015م صدر الفيلم الوثائقي “الحقيقة الساطعة” A Flickering Truth للمخرجة النيوزيلندية “بيترا بريتكيلي” Pietra Brettkelly.

الفيلم يتناول محاولات السيد “إبراهيم عارفي”، أحد العاملين بأفغان فيلم، إنقاذ أرشيف المؤسسة من التدمير بعد سيطرة حركة طالبان على كابل عام 1996م.

عُرض الفيلم لأول مرة عالميًا في الدورة الـ 72 من مهرجان “فينيسيا السينمائي الدولي” ضمن قسم “فينيسيا كلاسيك”، كما اُختِير ليمثل نيوزيلندا في جوائز الأوسكار الـ 89 كأفضل فيلم وثائقي أجنبي، لكن لجنة الأوسكار لم توافق على ترشيحه.

في عام 2019م، صدر الفيلم الوثائقي “الشريط الممنوع” The Forbidden Reel للمخرج الكندي أفغاني الأصل “آريیل نصر”.

يتناول الفيلم تاريخ السينما الأفغانية من خلال مجموعة من المقابلات القديمة والحديثة مع بعض الشخصيات الأفغانية البارزة في صناعة السينما.

عُرض الفيلم لأول مرة عالميًا في مهرجان “أمستردام الدولي للأفلام الوثائقية” عام 2019م، وحصل على جائزة “روجرز” بتصويت الجمهور Rogers Audience Award من مهرجان “هوت دوكس الكندي الدولي للأفلام الوثائقية” بتورونتو عام 2020م.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى