تقارير

صفقات الغاز التركية: مكاسب استراتيجية وسط تحديات إقليمية

كتبت: هدير البحيري

في خطوة تهدف لتعزيز موقعها الإقليمي في معادلة الطاقة، أعلنت تركيا خلال مؤتمر “غازتك 2025” في ميلانو عن توقيع سلسلة اتفاقيات لاستيراد الغاز الطبيعي المسال مع شركات عالمية، بالتوازي مع المرحلة الثالثة من تطوير حقل “صقاريا” البحري.

وتأتي هذه التحركات في إطار استراتيجية أنقرة لتأمين إمداداتها وتنويع مصادر الطاقة، ما يعكس دورها المتنامي كلاعب إقليمي في سوق الغاز والسياسة الطاقوية.

صفقات الغاز المسال: شركاء عالميون لتأمين الإمدادات

وقال وزير الطاقة التركي، ألب أرسلان بيرقتار، إن شركة الطاقة الحكومية “بوتاش” أبرمت اتفاقية مع شركة “شينيير” الأمريكية لشراء 1.2 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي المسال، مؤكدًا أن هذا التعاون “سيزيد من تنوع محفظة الغاز المسال لتركيا، وسيسهم في تطوير نماذج أعمال جديدة”.

وأضاف الوزير أن “بوتاش” وقعت أيضًا اتفاقية توريد مع شركة “هارتري” الأمريكية لشراء 600 مليون متر مكعب من الغاز المسال على مدى عامين.

وفي سياق متصل، كشف بيرقتار عن إبرام “بوتاش” اتفاقات طويلة الأجل مع شركات طاقة أوروبية كبرى، تشمل شراء 1.6 مليار متر مكعب سنويًا من “بي بي” البريطانية، و800 مليون متر مكعب من “شل” الهولندية البريطانية، و500 مليون متر مكعب من “إيني” الإيطالية، لكل منها لمدة ثلاث سنوات.

كما وقعت الشركة التركية مذكرة تعاون مع “العُمانية للغاز الطبيعي المسال” لتعزيز السعة الإنتاجية في السلطنة والتعاون في مجال السفن الناقلة للغاز، إلى جانب مذكرة تفاهم مع “بتروتشاينا إنترناشونال” الصينية للتعاون في تجارة الغاز ونقله واستكشاف أسواق جديدة.

تطوير صقاريا: خطوة محورية في أمن الطاقة

من جهتها، أعلنت مجموعة “سايبم” الإيطالية الهندسية عن فوزها بعقد قيمته 1.5 مليار دولار لتطوير المرحلة الثالثة من مشروع حقل “صقاريا”، أكبر حقل غاز طبيعي بحري في تركيا.

ويشمل العقد تشييد وحدة إنتاج عائمة وخط أنابيب رئيسي جديد يربطها بالمنشآت البرية، على أن يبدأ العمل البحري في عام 2027 ويستمر لمدة تصل إلى ثلاث سنوات.

وكانت “سايبم” قد شاركت بالفعل في المرحلتين الأولى والثانية من تطوير الحقل.

خطط تركيا لتأمين الغاز وتوسيع نفوذها التجاري

أوضح بيرقتار خلال مشاركته في إحدى جلسات المؤتمر أن تركيا بحاجة إلى مزيد من الغاز بكثير، مشيرًا إلى زيادة الإنتاج من حقول البحر الأسود واستكشاف مشاريع جديدة مع شركاء في آسيا الوسطى وبحر قزوين وأفريقيا والشرق الأوسط.

كشف بيرقتار أن المحادثات مع شركة “شل” شملت بحث فرص التعاون في مجالي الاستكشاف والإنتاج في البحر الأسود، إلى جانب مبادرات مشتركة محتملة في دول ثالثة. وفي الوقت نفسه، شدد على أن صفقة تركيا مع “بي بي” تكتسب أهمية كبيرة لضمان أمن الإمدادات خلال أشهر الشتاء، وزيادة تنوع الموارد، وتعزيز المرونة في التجارة الخارجية للغاز.

وتسعى “بوتاش” بشكل متزايد للحصول على كميات مرنة من الغاز المسال يمكن إعادة بيعها في الأسواق الخارجية، بما يعزز دورها كلاعب نشط في التجارة الدولية إلى جانب كونها مستوردًا رئيسيًا، كما تبحث شراء أو استئجار ناقلتين للغاز المسال لدعم طموحاتها التجارية.

خطوة استراتيجية لإعادة التفاوض مع روسيا وإيران

تأتي هذه الخطوات في وقت تستعد فيه تركيا لإعادة التفاوض العام المقبل بشأن عقودها طويلة الأجل مع كل من روسيا وإيران، في محاولة لتقليص الاعتماد على الإمدادات عبر خطوط الأنابيب، وتوسيع نطاق وارداتها من الغاز المسال الذي بات يكتسب أهمية متزايدة في استراتيجيتها الطاقوية.

تعزيز النفوذ الإقليمي: الرسائل الكامنة وراء اتفاقيات الغاز التركية

قالت الباحثة في الشؤون التركية، سماء جمال، في حديث خاص لـ”داي نيوز” إن توقيع أنقرة عشر اتفاقيات لاستيراد نحو 15 مليار متر مكعب من الغاز المسال للفترة بين 2026 و2028 يبعث بعدد من الرسائل الاستراتيجية المهمة.

وأكدت جمال أن تركيا تسعى إلى ترسيخ مكانتها كمركز إقليمي رئيسي لتوزيع الغاز، مما يمنحها دورًا متناميًا في معادلات الطاقة الإقليمية، ويعكس حرصها على تنويع مصادر الإمداد وتعزيز مرونة منظومتها الطاقوية، خاصة في مواجهة ذروة الاستهلاك الشتوي.

وأشارت إلى أن هذه الاتفاقيات توضح للأسواق الدولية والاتحاد الأوروبي قدرة أنقرة على ضمان استقرار الإمدادات، ما يعزز من موقعها التفاوضي ويحفز تطوير البنية التحتية في مجالي الاستقبال والتخزين لتلبية الطلب المحلي المتزايد.

تعزيز أمن الطاقة وتقليل الاعتماد على الاستيراد

وأضافت جمال أن الاتفاقيات الأخيرة، إلى جانب تطوير حقل صقاريا البحري، تمثل خطوة محورية لتعزيز أمن الطاقة التركي، من خلال تنويع المصادر وتخفيف الضغط على خطوط الأنابيب التقليدية. وأوضحت أن زيادة الإنتاج في صقاريا، المتوقع أن يصل إلى نحو 14.6 مليار متر مكعب سنويًا، إلى جانب صفقات الغاز المسال الأخيرة، قد تخفض واردات تركيا بنسبة تقارب 40% بحلول 2028، ما يعزز مرونة منظومة الطاقة الوطنية على المدى المتوسط.

مخاطر جيوسياسية واقتصادية تهدد استراتيجية تركيا الطاقوية

ولفتت الباحثة إلى أن هذه الخطوات تسهم تدريجيًا في تعزيز موقع تركيا كمركز إقليمي للطاقة، عبر الجمع بين الموقع الجغرافي الاستراتيجي المطل على ثلاث قارات، والقدرة على التحكم في تدفقات الغاز بين الشرق الأوسط وروسيا وآسيا الوسطى والأسواق الأوروبية.

وحذرت جمال من أن أنقرة تواجه جملة من المخاطر الجيوسياسية والاقتصادية، مشيرة إلى أن التوترات في شرق المتوسط، والنزاعات مع اليونان وقبرص حول ترسيم الحدود البحرية وحقوق الاستكشاف والاستخراج، قد تؤدي إلى فرض عقوبات أوروبية أو إضعاف مكانة تركيا الدبلوماسية.

وأضافت أن تركيا تعتمد على روسيا كمصدر رئيسي للغاز، في الوقت الذي تسعى فيه لمنافسة موسكو كممر استراتيجي للطاقة نحو أوروبا، ما قد يعرضها لضغوط مباشرة إذا تباينت مصالح الطرفين. كما أكدت أن تقلبات أسعار الطاقة العالمية وتحديات الاقتصاد الداخلي، مثل عجز الميزان التجاري وضعف العملة، تشكل عوامل إضافية تؤثر على استدامة الاستراتيجية الطاقوية.

رؤية تركيا الطاقوية حتى 2035: استدامة ونفوذ إقليمي

وشددت جمال على أن تركيا من المرجح أن تواصل اتباع نهج متوازن يجمع بين تعزيز الإنتاج المحلي، والاستيراد من الخارج، والاستثمار في الطاقة النظيفة حتى عام 2035، مشيرة إلى أن نجاح هذا المسار سيظل مرتبطًا بقدرة أنقرة على إدارة الأزمات الاقتصادية والسياسية داخليًا وخارجيًا، وتطوير الخبرات التقنية، وضمان تدفق الاستثمارات اللازمة لمشاريع الطاقة النظيفة.

واختتمت الباحثة حديثها مؤكدة أن مواكبة التحولات البيئية العالمية وتلبية معايير الاتحاد الأوروبي في مجال الطاقة النظيفة ستكون عوامل حاسمة في تحديد مدى قدرة تركيا على ترسيخ استراتيجيتها الطاقوية وتحقيق أهدافها المستقبلية، بما يعكس طموح البلاد في أن تصبح لاعبًا مؤثرًا ومستدامًا على الساحة الإقليمية والدولية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى