من المصطلح إلى الميدان…آلية الزناد
بقلم: د. ريم أبوالخير، مذيعة ومعدة برامج لغة فارسية بالهيئة الوطنية للإعلام

من المصطلح إلى الميدان
سلسلة مقالات سياسية لغوية (2)
آلية الزناد (مكانيسم ماشه) … سلاح الاتفاقات في وجه الانتهاكات أم ذريعة للضغط السياسي؟
في عالم السياسة الدولية والاتفاقيات النووية، هناك أدوات قد تغير مسار التاريخ، وتعيد صياغة موازين القوى، تشكل بعض أدوات ضغط فعالة لضمان التزام الأطراف ببنود الاتفاق، من بين هذه الآليات وكثيرًا ما نسمع بها هي “آلية الزناد” أو ما يُعرف بالإنجليزية بـ Trigger Mechanism، أو “سناب باك”وبالفارسية بـ مکانیسم ماشه”.
هذا المصطلح يُستخدم للدلالة على إجراء قانوني وسياسي خاص، وهو يعكس فلسفة الردع والرقابة في العلاقات الدولية، ويُستخدم في حالات خرق الاتفاقيات التي تتعلق بالأمن القومي والسلاح النووي، وهو أداة للضغط السياسي، وأحيانا يتحول لوسيلة صدام بدلًا من ضمان السلام. اتفاق دولي يتم تفعيله تلقائيًا عند حدوث خرق أو انتهاك لاتفاق دولي معين، ويسمح لأحد الأطراف الموقعة بإعادة فرض العقوبات تلقائيًا على الطرف الآخر دون الحاجة إلى تصويت جديد أو موافقة جديدة من الأطراف الأخرى.
ورغم أنها تمنح الاتفاق قوة ردعية، فإنها في الوقت نفسه تحمل مخاطر سياسية كبيرة، وقد تُستخدم كسلاح قانوني لفرض إرادات فردية على حساب التوافق الدولي.
تأتي التسمية من تشبيه الإجراء بـ”الزناد” في السلاح، حيث يكفي ضغط الزناد لإطلاق النار فورًا، دون الرجوع لأي جهة أخرى. كذلك في السياسة، “آلية الزناد” تعني أن مجرد تفعيلها من طرف معين يكفي لعودة العقوبات أو الإجراءات السابقة.
وتبقى “آلية الزناد” أحد أبرز الأمثلة على الهندسة القانونية المعقدة في الاتفاقات الدولية، حيث يختلط القانون بالسياسة، وتبقى الثقة هي العنصر الأضعف.
أداة ردع أم سلاح للضغط السياسي؟
على الورق، يُفترض أن تكون آلية الزناد وسيلة لضمان التزام الأطراف ببنود الاتفاق، وتُمنح للجهات الموقعة من أجل حماية روح الاتفاق. لكنها في الواقع، وخاصة في الملفات الحساسة مثل الملف النووي، تتحول بسهولة إلى أداة ضغط سياسي تُستخدم عندما تفشل أدوات التفاهم الدبلوماسي.
• مواقف الدول من آلية الزناد
الولايات المتحدة:
• كانت من أشد المدافعين عن تضمين الآلية في الاتفاق، رأت في الآلية أداة شرعية للردع والعقاب، حتى بعد انسحابها من الاتفاق في 2018 في عهد الرئيس ترامب، لكنها حاولت في 2020 تفعيل الآلية رغم انسحابها، ما أثار جدلًا دوليًا.
• مجلس الأمن رفض محاولة واشنطن، واعتبرت معظم الدول أنها لم تعد طرفًا في الاتفاق ولا يحق لها التفعيل.
الدول الأوروبية (بريطانيا، فرنسا، ألمانيا):
• ترى في الآلية أداة ضغط أخيرة وليست خطوة أولى.
• استخدمتها كورقة ضغط سياسية على إيران بعد تقليص التزاماتها، لكنها لم تذهب حتى النهاية بإعادة فرض العقوبات.
روسيا والصين:
• تعارضان بشدة هذه الآلية.
• فاعتبرتا الآلية اختراقًا لسيادة الدول وتجاوزًا لدور مجلس الأمن، وأنها أداة تُستخدم سياسيًا ضد إيران، وتخرق روح الاتفاق والتوازن الدولي.
• دعمتا إيران في رفض محاولات تفعيلها، خصوصًا من قبل الولايات المتحدة.
أما إيران ، فقد نظرت إلى هذه الآلية على أنها سلاح سياسي يهدف إلى خنقها اقتصاديًا دون مسوغ قانوني حقيقي، بل وهددت بأن تفعيلها سيقابل بخطوات نووية متقدمة.
وتعتبرها آلية ظالمة وغير متوازنة، كما ترى أن استخدامها سيُعيد البلاد إلى مربع العقوبات ويُفشل أي مسار دبلوماسي.وأكدت أن تفعيلها من قبل أي طرف سيُقابل بإجراءات نووية متقدمة (مثل زيادة نسبة التخصيب).
الإشكال القانوني والسياسي
إن فهم “آلية الزناد” يتطلب إدراكًا مزدوجًا حيث أنه يجمع بين القانون والسياسة بشكل مربك:
1. من الناحية القانونية (القانون الدولي):
• تُعتبر آلية الزناد نوعًا من الضمانات التنفيذية داخل الاتفاقات متعددة الأطراف.
• وجودها يمنح الاتفاق قدرة ذاتية على الردع دون انتظار آليات التصويت التي قد تعرقلها المصالح السياسية.
• تُدرج عادةً كجزء من آلية تسوية النزاعات (Dispute Resolution Mechanism).
2- من الناحية السياسية و الدبلوماسية:
• تشكل هذه الآلية تعبيرًا عن فقدان الثقة بين الأطراف، لذلك يُلجأ إليها عندما يكون من المتوقع احتمال عدم الالتزام.
• لكنها سيف ذو حدين: فبينما تؤمّن الانضباط، فإن استخدامها الأحادي قد يؤدي إلى تفكك الاتفاق بالكامل، حيث أنه يُفرغ أحيانًا الاتفاقات الدولية من مضمونها، لأن أي طرف يستطيع، حتى لو لأسباب سياسية، أن يُعيد فرض العقوبات متى شاء.
من بند قانوني إلى أداة نزاع… النموذج الإيراني
أشهر تطبيق عملي لآلية الزناد (مکانیسم ماشه) نجده في الاتفاق النووي الإيراني (JCPOA) أو المعروف بالفارسية (فرجام) الموقع عام 2015 بين إيران ومجموعة الدول الكبرى (5+1).
الاتفاق النووي نصّ على أنه في حال اعتبر أي طرف أن إيران لا تلتزم بتعهداتها، يمكنه رفع الأمر إلى لجنة تسوية النزاعات، وإذا تعذر الحل، يحق له تفعيل “آلية الزناد”، ما يؤدي تلقائيًا إلى إعادة جميع العقوبات الأممية التي كانت مفروضة قبل توقيع الاتفاق.
وفي عام 2020، وبعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق في عهد الرئيس دونالد ترامب، حاولت واشنطن تفعيل هذه الآلية رغم خروجها الرسمي منه، وهو ما رفضته بقية الأطراف، معتبرة أن دولة لم تعد طرفًا في الاتفاق لا يحق لها استخدام آلياته.
هنا تحوّلت آلية قانونية إلى أزمة سياسية دولية، وعنوان لمواجهة مفتوحة في مجلس الأمن بين الدول الكبرى.
كيف تعمل هذه الآلية؟
• إذا شعرت إحدى الدول الموقعة أن إيران لا تلتزم ببنود الاتفاق أي في حال وقوع خرق (مثل تجاوز حدود تخصيب اليورانيوم)، فيمكنها رفع شكوى إلى لجنة فض النزاعات.
• إذا لم تُحل المسألة خلال فترة زمنية محددة (حوالي 65 يومًا)، يمكن للطرف المشتكي تفعيل آلية الزناد.
• بمجرد التفعيل، تعود جميع العقوبات الدولية التي كانت مفروضة على إيران قبل الاتفاق، وذلك تلقائيًا، بما في ذلك تلك التي أقرها مجلس الأمن قبل عام 2015 بموجب القرار 2231 ودون الحاجة لتصويت جديد في مجلس الأمن.
الانتقادات الموجهة لآلية الزناد
1. خرق مبدأ السيادة القانونية: لأنها تتجاوز الحاجة إلى إجماع دولي في مجلس الأمن.
2. سهولة التفعيل: قد تُستخدم كسلاح سياسي بدلًا من أداة قانونية.
3. تفريغ الاتفاق من مضمونه: إذا كان أي طرف قادرًا على إعادة العقوبات، فإن الحافز للبقاء في الاتفاق يضعف.
4. إضعاف مجلس الأمن: إذ تُقلل من دوره كمرجعية دولية لاتخاذ قرارات العقوبات.
لماذا هي مثيرة للجدل؟
• تُعطي لأي دولة من الأطراف الموقعة حقًا فرديًا في إعادة فرض العقوبات، حتى وإن عارضت الدول الأخرى.
• تلغي الحاجة إلى تصويت أو توافق دولي في مجلس الأمن.
• استُخدمت بطريقة جدلية عام 2020، عندما حاولت الولايات المتحدة – بعد انسحابها من الاتفاق – تفعيل آلية الزناد رغم أنها لم تعد طرفًا فيه، ما أثار خلافات قانونية ودبلوماسية كبيرة.
لذلك، فإن تفعيل مثل هذه الآليات يجب أن يتم في إطار من الحوار والتفاهم، لا في سياق التصعيد والمواجهة. فالاتفاقات لا تحيا بالبند وحده، بل بروح التعاون التي تحكمه.
إن وجود هذه الآلية يطرح أسئلة أعمق:
هل الاتفاقيات الدولية تُبنى على الثقة والتفاهم، أم على التهديد والضغط؟
وهل تبقى سلاحًا لضمان الالتزام؟ أم تستخدم كذريعة جديدة لفرض الإرادة بالقوة؟
الإجابة تعتمد على من يضغط الزناد… ولماذا؟