مقالات

«التعليم البايظ».. مصنع موظفين فاسدين وأطباء قاتلين!

بقلم: إسراء جبريل، الصحفية والباحثة

يبدأ كلّ شيء من التعليم… وينتهي كلّ شيء عنده.
إذا تعطّل التعليم، تعطّلت معه الدولة: من موظّف مرتشٍ إلى طبيبٍ غير مُؤهَّل، ومن مهندسٍ مُتهاوِن إلى أستاذٍ جامعي يسرقُ كتابات أساتذته وأبحاث طلابه. هذه السلسلة المسمومة لا تُنتج إلا مجتمعًا هشًّا واقتصادًا ينزف.

ومنذ قديم الأيام نجد الفلاسفة والمفكرين قد فطنوا لهذا الأمر؛ فذكر أفلاطون منذ قرون إنّ التربية الحقيقية ليست حشو العقول بالمعلومات، بل صوغ الفضيلة التي يقوم عليها صلاح المدينة. وحذّر ابن خلدون من أن التعليم إذا ارتبط بالقهر والعسف فلن يُنتج إلا جيلاً ميّالاً للكذب والتحايل، وهي بذرة الغش التي نعيشها اليوم. فيما دعا جان جاك روسو إلى أن يكون التعليم تجربةً حيّة تُنمّي الفضول، لا امتحانًا يُختزل في ورقة وقلم. إن تجاهل هذه الرؤى جعل الغش ثقافةً، والنجاح بلا فهمٍ قاعدةً، فكانت النتيجة منظومةً تنسف ثقة المجتمع في شهاداته ومؤسساته.

فلماذا صارت المدرسة والجامعة «مشكلةً أمّ»؟!

  • ثقافة الغش والتسريب: من تفتيش الكمّامات خلال الامتحانات لكشف الغش إلى صخب التسريبات، صرنا نعالج الأعراض لا المرض: نظام تقويمٍ يساوي بين «الحفظ السريع» و«التعلّم العميق».

تغطّي تقارير عربية ذلك بانتظام، من أجواء الغش وضغوط الثانوية العامة، إلى إجراءات وقائية استثنائية داخل اللجان.

  • تآكل النزاهة الأكاديمية: حين يصبح «الانتحال» طريقًا سهلاً للترقية، تتقوّض الثقة في الشهادات نفسها.

عربياً، وثّقت صحف وقنوات قضايا فصل أكاديميين بسبب سرقات علمية، كما تحرّكت تشريعات في دولٍ مثل تونس لتجريم الظاهرة بنصوص أحدث، لأن أدوات الذكاء الاصطناعي سهّلتها وعمّمتها. أمّا قصص استحواذ المشرفين على أبحاث طلابهم وحتى سرقتهم لأبحاث الباحثين من أنحاء العالم فباتت مادةً صحفيةً متكرّرة.

  • كيانات تعليم «وهمية»: فعلى الصعيد الطبي نجد تحذيرات مستمرة من معاهد تمريض غير معتمدة تتقاضى آلاف الجنيهات مقابل وعودٍ زائفة بالتوظيف، دفعت جهاتٍ مهنية وصحفًا إلى نشر القوائم المعتمدة والتنبيه إلى المخاطر القانونية والمهنية.

الخسائر المادية: كم ندفع – حرفيًا – ثمن فشل التعليم؟

  • خسارة تريليون دولار في منطقتنا: تقدّر منظماتٌ دولية (اليونسكو واليونيسف والبنك الدولي) أن جيلًا كاملاً من طلاب غرب آسيا وشمال إفريقيا قد يخسر حتى تريليون دولار من دخولهم مدى الحياة بسبب فجوات التعلّم التي تفاقمت مع الجائحة.
  • كارثة عالمية بـ 21 تريليون دولار: عالميًّا، يحذّر البنك الدولي من أن هذا الجيل قد يخسر 21 تريليون دولار من دخله المستقبلي (قيمة حالية)، أي ما يعادل 17% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي اليوم. هذه ليست أرقامًا «أكاديمية»، بل أجرٌ مفقود، وإنتاجيةٌ لن تتحقق.
  • فقر التعلّم في منطقتنا: حتى قبل الجائحة، كان 60% من أطفال المنطقة غير قادرين على قراءة نص بسيط وفهمه عند سن العاشرة؛ وارتفعت النسبة بنحو 10 نقاط مئوية إضافية مع إغلاقات المدارس. آخر بيانات اليونيسف تُظهر أيضًا أن نحو 30 مليون طفل في غرب آسيا وشمال إفريقيا باتوا خارج المدرسة. هذه فجوة مهاراتٍ مباشرة إلى بطالةٍ أعلى وأجورٍ أدنى

من المدرسة إلى الدولة: كيف ينعكس ذلك اجتماعيًا؟

  • أنظمة صحية في خطر: تخريج ممرّضين من كيانات غير معتمدة، أو أطباء من تعليمٍ يساوم على المهارة، يعني أخطاءً طبيةً قاتلة وفاتورة تعويضاتٍ وتدريبٍ لاحقٍ باهظة. التحذيرات الصحفية والمهنية ليست «تهويلاً»، بل دفاعٌ عن سلامة المرضى وثقة المجتمع.
  • اقتصاد منخفض الإنتاجية: العامل الذي لم يقرأ جيدًا في العاشرة لن يبرع في البرمجة في العشرين ولا في صيانة المعدات الدقيقة في الثلاثين. هذا بالضبط ما تلتقطه تقديرات البنك الدولي عن خسائر الدخل مدى الحياة.
  • تآكل الشرعية: حين يسود الغش والانتحال، تسقط «هيبة» الشهادة ويضعف العقد الاجتماعي: لماذا أدفع الضرائب أو ألتزم بالقانون إذا كان «المستحقّ» وظيفةً أو ترقيةً حصل عليها من غشّ؟ التصدّعات الأخلاقية تصبح مؤسسية بمرور الوقت، كما تكشف تحقيقات وصحافة عربية متكررة.

فماذا نفعل إذن؟

قدمت عدد من المؤسسات الدولية وأبرزها البنك الدولي، عددًا من الآليات لتطوير الأنظمة التعليمية من منظور علمي وأكاديمي، وأبرزها:

  1. إصلاح التقويم قبل المناهج: الانتقال من امتحانٍ واحدٍ عالِ المخاطر إلى تقييمٍ تراكميٍّ متعدد الأدوات، يشمل أداءاتٍ عملية ومشاريع، مع بنوك أسئلة حقيقية وحوكمة صارمة لسلسلة الامتحان.
  2. نزاهة أكاديمية مُلزِمة: تشريعات واضحة تُجرِّم الانتحال وعقوبات علنية ضد من يقوم به، وحدات جامعية مستقلة للفحص (Turnitin وأمثاله، أو بدائل مفتوحة المصدر)،.
  3. تأهيل مهني مُعتمد: نشر دوريّ لقوائم المعاهد المعترف بها ومنصّات تحققٍ عامة؛ وإغلاق الكيانات الوهمية واسترداد حقوق المتضرّرين.
  4. مدرسةٌ إنسانية كما وصف ابن خلدون: تدريب المعلّمين على بدائل الانضباط القاسي، وإدماج التعلّم النشط القائم على المشروعات والبحث؛ هكذا نكسر الحلقة التي تربط الخوف بالغش.
  5. شفافية تمويل وربط مخرجات: ربط جزءٍ من تمويل الجامعات والمدارس بمؤشرات نواتج التعلّم (قراءة وفهمًا في الصفوف المبكرة، ومهارات رقمية لاحقًا)، لا بعدد الخريجين فقط.

بقلم: إسراء جبريل، الصحفية والباحثة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى