تقاريرمقالات

مقال رأي تحليلي: حرب المياه في جنوب آسيا.. صعود الصين وتحدي النظام الدولي

لم تعد الأنهار في القرن الحادي والعشرين مجرد مصادر طبيعية للحياة، بل تحولت إلى أدوات نفوذ سياسي واقتصادي وعسكري.

مشروع الصين لبناء سد “ميدوغ” العملاق على نهر براهمابوترا ليس مجرد خطوة تنموية لإنتاج الطاقة النظيفة، بل مؤشر على تحولات أعمق في موازين القوى العالمية، وعلى صراع مكتوم قد يفتح الباب لما يُعرف اصطلاحًا بـ”حرب المياه”.

 الصين ومفهوم “السيادة المائية”

منذ عقدين، تبني الصين استراتيجيتها الإقليمية على توظيف الجغرافيا كأداة قوة. سيطرتها على منابع أنهار كبرى مثل ميكونغ وبراهمابوترا تمنحها قدرة استثنائية على التأثير في أمن الغذاء والطاقة لدى جيرانها.

سد براهمابوترا، الذي يُتوقع أن يكون الأكبر في العالم، ليس فقط مشروعًا هندسيًا ضخمًا؛ إنه تجسيد لفكرة “السيادة المائية” التي تروج لها بكين كحق طبيعي، لكنه في الواقع يضع مصير ملايين السكان في الهند وبنغلاديش تحت رحمة قراراتها السياسية.

 الهند.. بين القلق والردع

بالنسبة لنيودلهي، الأمر يتجاوز المخاوف البيئية والاقتصادية. التحكم الصيني في تدفق المياه يهدد الأمن القومي مباشرة، خصوصًا في منطقة أروناتشال براديش المتنازع عليها.

الهند، التي تعاني أصلًا من توترات حدودية مع الصين، تجد نفسها أمام معركة جديدة غير تقليدية: ليست صواريخ أو دبابات، بل مياه يمكن حجبها أو إطلاقها وفق اعتبارات سياسية.

لذا تسعى لتسريع بناء سدود مضادة مثل مشروع “سيانغ العلوي”، في محاولة لخلق توازن استراتيجي أمام “السلاح المائي” الصيني.

بنغلاديش.. الضحية الصامتة

إذا كانت الهند تملك أدوات ضغط وموازنة، فإن بنغلاديش تقف في موقع هش للغاية. فاقتصادها الزراعي يعتمد بشدة على تدفق براهمابوترا. أي تغيير في معدلات المياه قد يفضي إلى كوارث إنسانية تهدد الاستقرار الداخلي وتضاعف الهجرة والنزاعات الاجتماعية.

بذلك، يتحول السد الصيني إلى عامل تهديد وجودي لدولة بأكملها، دون أن تمتلك هذه الدولة القدرة على التأثير في مجريات الصراع.

 النظام الدولي.. أمريكا في الخلفية

الأزمة تكشف أيضًا عن تحولات أوسع في النظام الدولي. الولايات المتحدة، التي كانت تاريخيًا لاعبًا ضاغطًا في القضايا الآسيوية، تبدو منشغلة بملفات أخرى مثل أوكرانيا وتايوان.

هذا الفراغ يمنح الصين مساحة أكبر لفرض “قواعد جديدة” في إدارة الموارد المشتركة، دون خوف من ضغوط خارجية فعالة.

وفي المقابل، تجد الهند نفسها مضطرة للاعتماد على قوتها الذاتية وتحالفاتها الإقليمية مع اليابان وأستراليا ضمن إطار “الرباعية” (QUAD)، لموازنة الصعود الصيني.

 من حرب باردة إلى “حرب المياه”

المشهد الحالي يوحي بأننا أمام انتقال نوعي في طبيعة الصراعات: لم تعد المنافسة محصورة في الاقتصاد أو التكنولوجيا أو السلاح النووي، بل دخلت المياه كعامل صراع استراتيجي.

وإذا كانت الحرب الباردة قد قامت على الردع النووي، فإن العقود المقبلة قد تشهد “ردعًا مائيًا” بين الصين والهند، حيث يصبح التحكم في الأنهار وسيلة مساومة لا تقل خطورة عن الصواريخ العابرة للقارات.

سد براهمابوترا ليس مشروعًا هندسيًا فحسب، بل جرس إنذار لنظام دولي يتغير بسرعة. في ظل غياب آليات دولية ملزمة لإدارة الأنهار المشتركة، ومع تصاعد صراع النفوذ بين بكين ونيودلهي، تبدو “حرب المياه” في جنوب آسيا احتمالًا واقعيًا أكثر من أي وقت مضى.

وإذا لم يتحرك المجتمع الدولي لاحتواء الأزمة عبر دبلوماسية المياه، فقد نجد أنفسنا أمام نزاع لا تُطلق فيه الرصاصات أولًا، بل تُحجب فيه المياه عن ملايين البشر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى