
يقف جنوب القوقاز اليوم أمام تحول استراتيجي قد يعيد رسم خرائط النفوذ في المنطقة. فبعد اتفاق السلام بين أرمينيا وأذربيجان برعاية أمريكية، برز ما يُعرف بـ”ممر زنجزور” أو “ممر ترامب” كمشروع لا يقتصر على كونه طريقًا بريًا يربط أذربيجان بتركيا عبر محافظة سيونيك الأرمينية، بل تحول إلى ورقة صراع جيوسياسي.
ففي الوقت الذي تسوقه واشنطن باعتباره “طريقًا للسلام والازدهار”، ترى فيه طهران تهديدًا مباشرًا لمكانتها الجغرافية، فيما تتعامل معه موسكو وبكين باعتباره تحديًا جديدًا لمصالحهما في المنطقة. وبين الطموح التركي والمخاوف الإيرانية والحسابات الروسية–الصينية، يبدو الممر الصغير على الخريطة قادرًا على إعادة تشكيل اقتصاد وأمن جنوب القوقاز.
الموقف الإيراني.. تصعيد متدرج ينتهي بإنذار عسكري
دخلت طهران على خط أزمة ممر زنجزور بمواقف متدرجة تراوحت بين التحذيرات الدبلوماسية والتلويح بالخيار العسكري.
فقد حذر علي أكبر ولايتي، كبير مستشاري المرشد الإيراني، من أن المناورات العسكرية التي أجرتها إيران في شمال غرب البلاد “أظهرت استعدادها وتصميمها على منع أي تغييرات جيوسياسية”، مضيفًا أن الممر “لن يصبح ممرًا مملوكًا لترامب، بل مقبرة لمرتزقته”.
وفي لهجة أكثر حدة، وجه عباس موسوي، مساعد مدير مكتب الرئيس الإيراني، تحذيرًا مباشرًا إلى باكو ويريفان، مؤكدًا أن “الأمر لم ينته بعد”، داعيًا إلى إعادة النظر في الاتفاق بشأن الممر.
وفي السياق ذاته، شدد علي باقري كني، عضو المجلس الاستراتيجي للعلاقات الخارجية، على أن إيران “لن تتغاضى بسهولة عن مسألة زنجزور”. أما وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، فاعتبر أن القضية “حساسة”، محذرًا من أي تدخل أجنبي قرب الحدود الإيرانية قد يؤدي إلى “تغييرات جيوسياسية في المنطقة”، مشيرًا إلى أن المسؤولين في يريفان طمأنوا طهران بعدم السماح بانتشار قوات أمريكية أو شركات أمنية أجنبية بذريعة الاتفاق.
كما عبر الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان عن “قلق بلاده من الوجود المحتمل للشركات الأمريكية في المنطقة”، مشددًا على رفض أي ترتيبات من شأنها أن تعزل إيران عن أرمينيا وبقية دول القوقاز.
وفي تصعيد إعلامي لافت، دعت صحيفة “فرهيختكان” المقربة من السلطات الإيرانية إلى التعامل مع مشروع ممر زنجزور بذات النهج الذي اتبعته طهران في استهداف قاعدة العديد الأمريكية بقطر خلال حربها الأخيرة مع إسرائيل، محذرة من أن أي تحركات أمنية معادية ضد إيران انطلاقًا من أراضي جيرانها الشماليين ستجعل هذه الأراضي “أهدافًا مشروعة”، مؤكدة أن الأولوية ستكون للاعتبارات الأمنية على حساب العلاقات الدبلوماسية.
وبذلك، يتضح أن الموقف الإيراني تطور من رسائل دبلوماسية وتحذيرات سياسية إلى تهديدات عسكرية مباشرة، في محاولة لقطع الطريق أمام مشروع تعتبره طهران تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي ووجودها الجيوسياسي في القوقاز.
لماذا تعارض إيران ممر “زنجزور”؟
قال الخبير في الشؤون الإيرانية محمد عبدالسلام لـ”داي نيوز” إن معارضة طهران لممر زنجزور تستند إلى اعتبارات جيوسياسية وأمنية واقتصادية متشابكة.
أولًا، تخشى إيران أن يؤدي الممر إلى قطع وصولها البري إلى أرمينيا، ما يزيد من عزلتها في جنوب القوقاز ويضعف دورها كممر عبور استراتيجي.
ثانيًا، ترى أن الممر يعزز نفوذ تركيا وأذربيجان — المدعومة من إسرائيل — على حدودها الشمالية، ما قد يفاقم النزعات الانفصالية داخل إقليم أذربيجان الإيراني.
إضافة إلى ذلك، يشكل الممر تحديًا اقتصاديًا كبيرًا، إذ يقلل من أهمية المسارات الإيرانية التقليدية بين آسيا وأوروبا، ويهدد موقعها في مشاريع البنية التحتية الإقليمية، بما في ذلك مبادرة “الحزام والطريق”، ويضعف قدرتها على التحكم بخطوط الطاقة والعبور في بحر قزوين.
على الصعيد الأمني والسياسي، ترى طهران أن الممر يتجاوز كونه طريقًا تجاريًا ليصبح أداة سياسية لربط القوقاز بالغرب وفرض تغييرات جيوسياسية خارج إرادة الدول الإقليمية، مع احتمال فتح الطريق أمام وجود عسكري مباشر للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي (الناتو) بالقرب من حدودها الشمالية الغربية.
ما هي خيارات إيران لمواجهة تحديات ممر “زنجزور”؟
وفيما يتعلق بالخيارات المتاحة أمام طهران لمواجهة مشروع “ممر زنجزور”، أوضح عبدالسلام أن إيران ستعتمد بالدرجة الأولى على أدواتها الدبلوماسية، عبر تكثيف تحركاتها الرسمية وممارسة ضغوط سياسية، مستفيدة من علاقاتها مع روسيا والصين في محاولة لتعطيل المشروع أو إدخال تعديلات على مساره.
كما رجح أن تعمل طهران على تعزيز دعمها لأرمينيا باعتبارها الطرف الأكثر تضررًا من الممر، وهو ما ظهر جليًا خلال الزيارة الأخيرة للرئيس الإيراني إلى يريفان، التي حملت رسائل واضحة بشأن تمسك إيران بتحالفاتها في جنوب القوقاز.
وأضاف عبدالسلام أن الخيار الأخير أمام طهران قد يتمثل في التصعيد الأمني أو حتى العسكري، مشيرًا إلى وجود مؤشرات على احتمال لجوء إيران إلى عمليات تخريبية تستهدف المشروع أو الأطراف المنخرطة في تنفيذه، وهو ما عكسته تصريحات مستشار المرشد الإيراني، الذي أكد أن “إيران ستمنع المشروع سواء بالتعاون مع روسيا أو بمفردها”.
ويحذر خبراء إستراتيجيون من أن إدخال أطراف غربية في إدارة الممرات قد يحول منطقة جنوب القوقاز إلى ساحة تنافس أمني طويل الأمد. كما يشيرون إلى أن استمرار الغموض حول طبيعة الوجود الأمريكي يفتح الباب أمام سباق نفوذ جديد بين القوى الكبرى في المنطقة.
وفي هذا السياق، ترى إيران ضرورة ترسيخ الطابع الاقتصادي للممرات وجعلها خط الدفاع الأول عن استقرار المنطقة، لتجنب الانزلاق نحو التوترات، والحفاظ على مصالحها الاستراتيجية دون الانجرار إلى صراعات عسكرية مباشرة.
تركيا وممر “زنجزور”: فرصة استراتيجية لتعزيز النفوذ الإقليمي
وفي السياق ذاته، أكد الخبير في الشؤون التركية شهاب الدين محمود لـ”داي نيوز” إن تركيا تعتبر ممر “زنجزور” فرصة استراتيجية لتعزيز مكانتها الجيوسياسية والاقتصادية في المنطقة.
ويتيح هذا الممر ربط جمهورية “نخجوان” الأذرية بباقي أراضي أذربيجان عبر إقليم “سيونيك” الأرميني، ما يشكل ممرًا بريًا مباشرًا بين تركيا وأذربيجان.
وأشار شهاب الدين إلى أن أنقرة تعطي أهمية كبيرة لهذا الممر باعتباره وسيلة لتحقيق الربط المباشر مع أذربيجان ودول آسيا الوسطى الناطقة باللغة التركية، في إطار رؤية “العالم التركي” الرامية إلى ربط هذه الدول بممر بري يمر عبر القوقاز. وأضاف أن الممر قد يسهم أيضًا في تمهيد الطريق لإعادة فتح المعابر الحدودية بين تركيا وأرمينيا، المغلقة منذ عقود.
وعلى الصعيد الجيوستراتيجي، أوضح شهاب الدين أن الممر يشكل جزءًا من “الممر الأوسط” ضمن مبادرة “الحزام والطريق”، ما يعزز دور تركيا كمركز لوجستي رئيسي لنقل البضائع من الصين إلى أوروبا، ويقوي مكانتها كمركز للطاقة في المنطقة. كما سيسهم الممر في ترسيخ دور أنقرة كقوة فاعلة في القوقاز، في الوقت الذي قد يقلل فيه من أهمية دور إيران في الربط البري بين أوروبا والقوقاز، ويعزز موقع تركيا كقائدة للعالم التركي اقتصاديًا واستراتيجيًا.
وأضاف شهاب الدين أن الولايات المتحدة تبدي اهتمامًا بتحقيق التوازن في جنوب القوقاز، في إطار الحد من النفوذين الروسي والإيراني، مشيرًا إلى أن دعم تركيا لممر “زنجزور” قد يمثل نقطة تقاطع للمصالح الأمريكية، ما يتيح لأنقرة استغلال المشروع كورقة ضغط لتعزيز تقاربها مع واشنطن، أو لتحقيق مكاسب تفاوضية في ملفات حساسة مثل التعاون الأمني في شمال شرق سوريا.
وقال وزير النقل التركي عبد القادر أورال أوغلو إن ممر “زنجزور” الذي يربط أذربيجان الرئيسية بمنطقة نخجوان المعزولة على الحدود التركية عبر أراضي أرمينيا، سيجعل “خط الشرق–الغرب من بكين إلى لندن يعمل بكفاءة أكبر”.
وفي إطار تعزيز البنية التحتية لدعم الممر، بدأت تركيا أعمال بناء سكة حديد بطول 224 كيلومترًا تربط نخجوان بمدينة قارص شرق البلاد، بتمويل خارجي قدره 2.8 مليار دولار.
وعند اكتمال المشروع بحلول عام 2029، ستتمكن هذه الخطوط من نقل 15 مليون مسافر و2 مليون طن من البضائع سنويًا، ما يعزز شبكات الإمداد واللوجستيات في أوراسيا ويضع تركيا في قلب التعاون الإقليمي، بحسب أورال أوغلو.
وأضاف الوزير التركي أن الممر عبر أرمينيا وأذربيجان سيزيد من حجم الشحنات على طول الممر الأوسط، وهو طريق تجاري رئيسي يربط آسيا بأوروبا.
وقالت المحللة الاقتصادية سيلفا بهار بازكي لدى “بلومبرج إيكونوميكس” إن تطبيع العلاقات التجارية مع أرمينيا قد يزيد من صادرات تركيا بنحو 3 مليارات دولار سنويًا، أي نحو 1% من إجمالي الصادرات، موضحة أن تنفيذ مشروع ممر “زنجزور” مع المبادرات الإقليمية المكملة قد يضيف مليار دولار إضافي سنويًا.
ومن المتوقع أن يسهم اتفاق السلام في إعادة العلاقات الدبلوماسية بين تركيا وأرمينيا، وفتح الحدود المغلقة منذ 1993، في خطوة مدعومة من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، ما قد يتيح ربط أرمينيا مباشرة بأحد أكبر اقتصادات الشرق الأوسط وتعزيز التجارة عبر الحدود.
“زنجزور”.. التاريخ والأهمية
يشكل ممر “زنجزور” شريطًا بريًا بطول نحو 40 كيلومترًا، يمر عبر المنطقة التي تطلق عليها أرمينيا اسم “سيونيك”، ويربط الأراضي الرئيسية لأذربيجان بإقليم نخجوان المفصول جغرافيًا عنها ويتميز بحكم ذاتي.
يقع الممر عند التقاء جبال القوقاز الصغرى ومرتفعات الأناضول بالقرب من الحدود الإيرانية، عبر مدينة “مِغري”، ويعد الطريق الأقصر بين نخجوان وبقية أذربيجان.
يمثل الممر حلقة أساسية في الربط الإقليمي، إذ يسهم في توسيع العلاقات الاقتصادية بين الدول ويعزز مكانة جنوب القوقاز في شبكة التجارة العالمية.
تاريخيًا، كانت زنجزور يسكنها مسلمون أتراك قبل أن يضمها الاتحاد السوفييتي إلى أرمينيا في عشرينيات القرن الماضي، وفصلت نخجوان عن الأراضي الأذرية، ما جعل الممر اليوم نقطة استراتيجية جيوسياسية واقتصادية لإعادة الاتصال البري بين أذربيجان وتركيا.
“زنجزور”..نافذة أذربيجان لتسهيل التجارة والطاقة
وترى أذربيجان في ممر “زنجزور” حلقة حيوية تربطهم بمنطقة نخجوان، وتمثل خطوة مهمة لتجاوز آثار الحرب السابقة.
وأوضحت صحيفة “فاينانشال تايمز” أن الممر ليس مجرد معبر بري، بل مشروع متعدد الوسائط يوفر إمكانات واسعة لتعزيز الربط الإقليمي في مجالات النقل والطاقة، إضافة إلى تكنولوجيا المعلومات الخاصة بإدارة المشروع وبنيته التحتية. فيما أشارت وكالة “رويترز” إلى أن الممر سيمكن أذربيجان من تسويق مواردها بشكل أكثر استقلالية، ويخفض تكاليف النقل مقارنة بالمسارات الحالية الطويلة.
من ممر “زنجزور” إلى طريق “ترامب”
أعلنت الولايات المتحدة أن الممر الذي وُقع في 8 أغسطس بين أرمينيا وأذربيجان بوساطتها المباشرة لا يمثل مشروعًا تجاريًا عاديًا، بل خطوة استراتيجية لوضع بصمة أمريكية طويلة الأمد في القوقاز وتقليص النفوذ الروسي والإيراني.
وأكد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن الممر، المعروف أيضًا باسم “ممر زنجزور”، سيحمل رسميًا اسم “طريق ترامب للسلام والازدهار الدولي (TRIPP)”، مشيرًا إلى شراكة حصرية مع أرمينيا لتطوير المشروع مع إمكانية تمديد الاتفاقية حتى 99 عامًا، في حين أبدت الشركات الأمريكية اهتمامًا بالمشاركة في البنية التحتية المصاحبة للممر.
ممر “زنجزور”: تهديد وفرصة لإيران
تشير التقارير الحديثة إلى أن حركة البضائع عبر الممرات العالمية قد تتضاعف خلال السنوات الخمس المقبلة، ما يزيد المنافسة بين المسارات التقليدية والناشئة.
وفي هذا السياق، يحذر اقتصاديون إيرانيون من أن أي تأخر في استكمال مشاريع البنية التحتية الوطنية قد يضع طهران خارج خريطة النقل الدولية، بينما تراقب الشركات اللوجستية العالمية عن كثب تحولات المنطقة، ما يفرض على إيران الإسراع في تقديم بدائل عملية وقابلة للتنفيذ.
ويؤكد مراقبون أن نجاح هذه الممرات سيعزز دور دول القوقاز بوصفها حلقة وصل بين الشرق والغرب، وهو ما قد يغير موازين القوى الاقتصادية في المنطقة.
وتُشير التقديرات إلى أن الممرات الجديدة قد تقلص زمن النقل بين آسيا وأوروبا بما يصل إلى أسبوعين، وتضيف مليارات الدولارات للتجارة الإقليمية.
في مواجهة هذا التحدي، أمام إيران عدة خيارات استراتيجية لتعزيز موقعها الترانزيتي، منها استكمال ممر الشمال–الجنوب بالتعاون مع روسيا والهند لربط بندر عباس بأوروبا، مما يقلص زمن النقل بين الهند وأوروبا إلى النصف، إضافة إلى تنفيذ ممر نهر أرس عبر الأراضي الإيرانية لربط نخجوان بباكو، وهو مشروع يخدم مصالح إيران وأذربيجان، وكذلك إعادة تفعيل مشروع الخليج–البحر الأسود بالتعاون مع أرمينيا وجورجيا لتوفير مسار مباشر لإيران إلى أوروبا.
يشير خبراء دوليون إلى أن القوقاز ليست مجرد جارة لإيران، بل جزء من تاريخها وثقافتها المشتركة، حيث توفر الاشتراكات الدينية مع أذربيجان والعلاقات القديمة مع أرمينيا لطهران أصولًا لتعزيز الثقة وبناء نفوذ ناعم.
ويرى الخبراء أن تقديم اتفاقية أمنية إقليمية تلزم دول جنوب القوقاز ببقاء الممرات اقتصادية مع منع أي وجود عسكري أجنبي يمثل أداة رئيسية لحماية مصالح إيران الاستراتيجية، دون الانجرار إلى صراعات مباشرة.
إضافة إلى ذلك، يشكل تعزيز العلاقات الاقتصادية الثنائية مع أرمينيا والاستثمار في القوة الناعمة عبر الإعلام والسياحة والمشاريع الثقافية أدوات فعالة لتعزيز النفوذ الإيراني في المنطقة، مع الاستفادة من الروابط التاريخية والثقافية في دعم هذه الاستراتيجية.