مقالات

العطش الاستراتيجي… من الشحّ المائي إلى التفكير الجيوسياسي في مستقبل العاصمة الإيرانية

بقلم| د. ريم أبو الخير

تعاني إيران، كغيرها من دول منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، من أزمة مياه خانقة تتفاقم عامًا بعد عام، لتشكل تحديًا وجوديًا يهدد استقرار البلاد ومستقبل أجيالها.

لم تعد أزمة المياه في إيران مجرد تحد بيئي أو مناخي تقليدي، بل تحولت إلى ملف استراتيجي يهدد بنية الدولة وسكانها على حد سواء، ففي وقت تتسارع فيه وتيرة التغير المناخي وتستنزف فيه الموارد الطبيعية بوتيرة غير مسبوقة، تجد إيران نفسها أمام واقع مرير، العاصمة طهران التي تحتضن أكثر من 15 مليون نسمة، باتت مدينة على حافة العطش والانهيار الأرضي.

تتجاوز تداعيات هذه الأزمة حدود الجفاف، وتتداخل فيها عوامل طبيعية وبشرية، لُتلقي بظلالها على كافة جوانب الحياة، من الزراعة والصناعة إلى الصحة العامة وحتى الأمن القومي، لتُعيد طرح أسئلة عن قابلية العيش في قلب إيران، وتدفع صناع القرار إلى التفكير – وللمرة الأولى بجدية – في خيار نقل العاصمة، فهل الأزمة ناتجة فقط عن تغيرات الطبيعة؟ أم أنها نتيجة تراكم سنوات من سوء الإدارة المائية والتخطيط العمراني غير المتوازن؟

وهل بات نقل العاصمة الإيرانية، أمرًا حتميًا لمواجهة هذه الأزمة؟

خلفية الأزمة وأبعادها … جغرافيا عطشى وسوء إدارة

تقع إيران في واحدة من أكثر المناطق جفافًا في العالم، حيث تقع ضمن حزام المناخات الجافة وشبه الجافة،  فيترواح معدل هطول الأمطار السنوي فيها بين 250 إلى 300 ملم فقط، أي أقل من ثلث المتوسط العالمي. وتعتمد بشكل رئيسي على الخزانات المياه الجوفية والسدود لتأمين احتياجاتها، إلا أن النمو السكاني السريع حيث يبلغ عدد سكانها 9.6 ملايين نسمة، والتوسع  التوزيع العمراني غير المتوازن، وزيادة طلب في القطاع الزراعي، ساهمت جميعها في استنزاف المواد الطبيعية بشكل متسارع.

وتفاقم هذا الوضع بفعل التغيرات المناخية العالمية، التي أدت إلى ارتفاع درجات الحرارة وتراجع معدلات هطول الأمطار، مما أثر سلبًا على مستويات المياه في الأنهار والبحيرات والخزانات الجوفية.

سوء إدارة وتخطيط

ورغم تحذيرات الباحثين والمتخصصين منذ عقود من التخطيط غير المستدام، إلا أن إدارة ملف المياه في إيران اتسمت بالتقصير والاعتماد على حلول مؤقته، مثل نقل المياه بين الأحواض أو حفر الآبار العشوائية. وهذا أدى إلى انخفاض منسوب مستوى المياه الجوفية وهبوط التربة في مناطق شاسعة، لا سيما حول العاصمة طهران، حيث تشير الدراسات إلى أن بعض المناطق تشهد هبوطًا أرضيًا بمعدل 30 سم سنويًا، والتوسع الزراعي غير المنظم مما أدى لاستنزاف مروع للمياه الجوفية وتدهور جودة المياه السطحية، كذلك الهدر الكبير للمياه في شبكات الري القديمة، وغياب الوعي العام بأهمية ترشيد الاستهلاك.

وتظهر التداعيات البيئية الكارثية لهذه الأزمة، حيث جفت العديد من البحيرات مثل بحيرة أرومية التي تقلص حجمها بشكل كبير، مما أدى إلى زيادة العواصف الترابية وتدهور جودة الهواء، كما أثر نقص المياه على خصوبة الأراضي الزراعية، وساهم في تفاقم ظاهرة التصحر.

وتُعد هذه الأزمة صورة مصغرة لأزمة واسعة النطاق تمتد إلى محافظات أخرى مثل خوزستان، إصفهان، وكرمان حيث جفت الأنهار والبحيرات وتصحرت الأراضي، ما أجبر آلاف السكان على ترك قراهم والهجرة نحو المدن الكبرى، لتتحول الكثافة السكانية إلى عبء إضافي على العاصمة المنهكة.

طهران … تحديات المياه والكثافة السكانية

تُعد العاصمة الإيرانية، بكتلتها السكانية الهائلة التي 15 مليون نسمة، بؤرة لأزمة المياه، فاستهلاك المياه في المدينة يفوق بكثير قدرة الموارد المائية المحلية على التجدد. وتعتمد طهران بشكل كبير على المياه السطحية من السدود والجوفية، وكلامها يتعرض لضغوط هائلة، بالإضافة إلى التلوث البيئي الناتج عن الكثافة السكانية والأنشطة الصناعية، مما يزيد من تعقيد تحديات توفير مياه شرب نظفية وآمنة.

إن التوسع العمراني غير المسبوق في طهران، مع استمرار الهجرة الداخلية نحو العاصمة، يزيد من الضغط على البنية التحتية المائية المتهالكة، ويهدد بكارثة بيئية وإنسانية في المستقبل القريب إذا لم يتم اتخاذ إجراءات حاسمة.

نقل العاصمة … ضرورة استراتيجية أم هروب من الواقع؟

في ظل هذه الأزمة، أصبحت فكرة نقل العاصمة الإيرانية من طهران تُطرح بجدية متزايدة، وتناقش على مستويات عليا في الدولة، ويرى المؤيدون لهذه الفكرة أن نقل العاصمة إلى منطقة تتمتع بموارد مائية أفضل وكثافة سكانية أقل، سيخفف الضغط الهائل على طهران ويتيح فرصة لإعادة تأهيل البيئة فيها، كما يشيرون إلى أن طهران تُعاني أيضًا من مشكلات أخرى، مثل التلوث الجوي المرتفع والتعرض للزلازل.

قُدمت العديد من المقترحات حول المواقع المحتملة للعاصمة الجديدة، مثل مدينة “إمام خميني”  المقترحة في محافظة سمنان، والتي تقع على بعد حوالي 120 كيلومترًا شرق طهران، وتعتبر أقل عرضة للزلال وتتمتع ببعض الموارد المائية.

ومع ذلك، لا تخل فكرة نقل العاصمة من التحديات والمخاطر، فعملية نقل بهذا الحجم تتطلب استثمارات مالية ضخمة جدا، وجهدًا لوجستيًا هائلًا، وقد تستغرق سنوات لإنجازها، كما أن هناك مخاوف بشأن الآثار الاقتصادية والاجتماعية لنقل العاصمة، وتأثيرها على سكان طهران ومصالحهم.

والأهم من ذلك أن نقل العاصمة وحده لن يحل أزمة المياه في إيران، فالأزمة أعمق من مجرد موقع جغرافي، وتتطلب حلولًا جذرية وشاملة تتضمن:

  • إدارة مستدامة للموارد المائية

من خلال ترشيد الاستهلاك في كافة القطاعات، وتطوير تقنيات الري الحديثة، ومعالجة مياه الصرف الصحي وإعادة استخدامها.

  • الاستثمار في البنية التحتية

من خلال تحديث شبكات المياه والصرف الصحي، وتقليل الفاقد في أنابيب التوزيع.

  • التوعية العامة

من خلال تعزيز الوعي بأهمية المياه وضرورة ترشيد استهلاكها بين جميع شرائح المجتمع.

  • البحث والتطوير

من خلال الاستثمار في الأبحاث المتعلقة بتحلية المياه، وتقنيات حصاد الأمطار، وإدارة المياه الجوفية.

  • التعاون الإقليمي

من خلال التعاون مع دول الجوار في إدارة الموارد المائية المشتركة وتبادل الخبرات.

من هنا يتضح أن طهران – كغيرها من المحافظات الإيرانية – تواجه تحديات بيئية ومعيشية متفاقمة تُهدد استقرار حياة المواطنين اليومية. وبينما يستمر الاعتماد المفرط على الموارد الجوفية ويتسارع شبح الجفاف، تزداد الحاجة إلى إدارة رشيدة للمياه والطاقة، وخطط استباقية تُراعي البُعد البيئي والإنساني في آنٍ واحد.

إن تجاهل الأسباب الحقيقية للأزمة، وإلقاء اللوم على المواطنين بدلًا من تحمل المسؤولية، لن يؤدي إلا إلى تعميق الفجوة بين الدولة والمجتمع، وتعريض المستقبل البيئي والاقتصادي لمخاطر جسيمة.

وهكذا بين جفاف الأرض وصمت المسؤولية، تمضي طهران نحو عطش لا يرويه  اللوم، ولا تنقذه أعذار. فصدق الظمأ أكثر من كل بيان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى