أخبار دوليةتقارير

العدو من الداخل: موجة انتحار تهز الجيش الإسرائيلي

هدير البحيري

بينما يخوض الجيش الإسرائيلي واحدة من أطول وأعنف حروبه في قطاع غزة، تتكشف داخله أزمة متفاقمة لا تتعلق فقط بتكتيكات القتال أو الخسائر البشرية، بل بانهيارات نفسية متزايدة، تمثلت في تصاعد غير مسبوق في حالات الانتحار.

وبحسب مراقبين، فإن هذه الأزمة تمثل “قنبلة موقوتة” تهدد بنية المؤسسة العسكرية من الداخل، حيث يبدو أن العدو الأخطر لا يقبع على جبهات القتال، بل داخل الجيش ذاته، وسط تكتم رسمي وتزايد محاولات الانتحار، ما يضع “جيش الشعب” أمام مرآة قاسية تكشف كلفة بشرية لم تعد قابلة للإخفاء.

تصاعد مقلق في حالات الانتحار

وفقًا لتقرير نشرته صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية، أقدم ما لا يقل عن 15 جنديًا إسرائيليًا على الانتحار منذ بداية عام 2025، في حين سُجلت 21 حالة خلال عام 2024، ما يعكس تسارعًا غير مسبوق مقارنة بالسنوات الماضية.

وتشير البيانات إلى أن معظم هؤلاء الجنود خدموا فعليًا في العمليات العسكرية، ولا سيما ضمن قوات الاحتياط.

وتؤكد المصادر العسكرية أن هذا الرقم لا يشمل المحاولات الفاشلة أو الحالات التي لا تُصنف رسميًا كـ”انتحار”، مما يثير تساؤلات حول مدى الشفافية في تعامل الجيش مع الأزمة.

ثلاث حالات في أسبوع ونصف.. مؤشرات على الانفجار

خلال أسبوع ونصف فقط، شهد الجيش ثلاث حالات انتحار مروعة لجنود عائدين من جبهة غزة، ما يعكس حجم الضغط النفسي الذي يعاني منه الجنود.

أفادت القناة 12 الإسرائيلية بأن أحد الجنود، وهو من لواء “ناحال”، أطلق النار على نفسه داخل قاعدة في الجولان بعد أكثر من عام من المشاركة القتالية.

وفي حالة أخرى، انتحر جندي من “غولاني” في قاعدة سدي تيمان بالنقب بعد سحب سلاحه إثر تحقيق داخلي، لكنه استخدم سلاح زميله لإنهاء حياته.

أما الحالة الثالثة، فأوردها موقع “والا” العبري، وتعود لجندي لم يتحمل مشاهد الدمار في غزة ولبنان، ما أدى إلى انتحاره، ليرتفع عدد من قضوا انتحارًا منذ بداية الحرب إلى ما لا يقل عن 44 جنديًا.

أزمة نفسية جماعية: آلاف الجنود تحت المتابعة

تشير تقديرات الجيش الإسرائيلي إلى أن نحو 20 ألف جندي يعانون من اضطرابات نفسية ناتجة عن الحرب في غزة، تتراوح بين القلق الحاد واضطراب ما بعد الصدمة.

ووفقًا لبيانات وزارة الأمن، يتلقى الآلاف من هؤلاء الجنود متابعة طبية مستمرة بسبب معاناتهم من أعراض نفسية مزمنة.

كما أظهرت دراسة أجرتها جامعة تل أبيب أن نحو 12% من الجنود يصابون باضطراب  (PTSD)عقب مشاركتهم في العمليات القتالية.

من جانبها، حذرت منظمات مدنية من أن قلة الدعم النفسي المتخصص تسهم في تفاقم هذه الظاهرة داخل وحدات الجيش.

الانتحار ثاني سبب للوفاة بعد القتال

كشف تقرير نشره موقع “InsideOver” الإيطالي عن أن الانتحار بات ثاني أبرز سبب لوفاة الجنود الإسرائيليين بعد المعارك المباشرة.

وأبرز التقرير حالة الجندي الاحتياطي “دانيال إدري”، الذي أحرق نفسه داخل سيارته قرب مدينة صفد، بعد مشاركته في مهام نقل جثامين قتلى الجيش.

كتب إدري في رسالة مؤلمة قبل وفاته : “أنا قنبلة موقوتة… عقلي ينهار”، ما سلط الضوء على هشاشة الدعم النفسي المقدم له ولأمثاله.

ورغم مطالبات أسرته بدفنه بمراسم عسكرية، رفضت وزارة الدفاع الإسرائيلية ذلك بحجة انتهاء خدمته.

وتعكس هذه الواقعة حجم الإهمال الرسمي الذي يفاقم من شعور الجنود بالخذلان والعزلة، بحسب منظمات معنية برعاية قدامى المحاربين.

فجوة في الصفوف الأمامية.. نقص المجندين يُربك العمليات القتالية

تزامنًا مع الأزمة النفسية، تواجه المؤسسة العسكرية أزمة هيكلية في الموارد البشرية، حيث تشهد انخفاضًا حادًا في أعداد المجندين.

وأفادت القناة 12 بأن الجيش بات مضطرًا إلى استخدام قوات النخبة في مهام المشاة التقليدية، بسبب الفجوة المتزايدة بين متطلبات الميدان والكوادر المتاحة.

وقد دخل قادة عسكريون في مفاوضات فردية مع جنود لتمديد فترات خدمتهم لعام إضافي، لتعويض هذا العجز. إلا أن طول فترات الخدمة – التي تصل أحيانًا إلى أكثر من 12 ساعة يوميًا – يفاقم من حالة الإرهاق والتذمر، ويُضعف الروح القتالية، خاصة مع اتساع فجوة الثقة بين الجنود وقياداتهم.

إعفاءات الحريديم تشعل الغضب الشعبي وتهدد وحدة الجبهة الداخلية

تأخذ الأزمة أبعادًا سياسية واجتماعية أوسع، في ظل تصاعد الجدل حول الإعفاءات التي يحصل عليها اليهود “الحريديم” من التجنيد الإجباري.

ووفقًا لاستطلاع أعده معهد دراسات الأمن القومي، يرى 71% من الإسرائيليين أن هذه الإعفاءات تُضعف دوافع الخدمة في الجيش، فيما أكد 42% أنها تؤثر على رغبتهم في إرسال أبنائهم للخدمة.

ويحذر المعهد من أن هذه الأزمة تمثل أحد أخطر التحديات التي تواجه المؤسسة العسكرية منذ عقود، خاصة في ظل الاستنزاف المستمر للجبهتين الجنوبية (غزة) والشمالية (لبنان)، ما يهدد بانهيار تدريجي في منظومة التعبئة والجاهزية.

تكتم رسمي ومطالبات بالكشف عن الحقيقة

وسط كل ذلك، يتعرض الجيش الإسرائيلي لانتقادات متزايدة بسبب رفضه نشر أرقام دقيقة حول حالات الانتحار.

ورغم المطالبات المتكررة من الإعلام، اكتفى المتحدث باسم الجيش، إيفي دفرين، بالقول:  “كل جندي عزيز علينا، لكن لا يمكننا نشر كل شيء، وهذا طبيعي.”

هذا التصريح أثار غضبًا في الأوساط الإعلامية والسياسية، خاصةً بعد تقارير عن أربع محاولات انتحار خلال أسبوعين، ثلاث منها انتهت بنجاح.

وتشير تقارير إذاعة الجيش إلى أن قسم القوى البشرية يتعمد إخفاء عدد المنتحرين، ما دفع أعضاء من لجنة الخارجية والأمن في الكنيست للمطالبة بجلسة طارئة لكشف أبعاد الأزمة.

هل تهدد أزمة الانتحارات فعالية الجيش الإسرائيلي؟

يرى خبراء ومحللون في الشؤون الإسرائيلية أن تصاعد حالات الانتحار والاضطرابات النفسية في صفوف الجيش يعكس خللاً بنيويًا آخذًا في التوسع داخل المؤسسة العسكرية، تتجاوز آثاره نطاق الفرد لتصيب فعالية الجيش ككل، خاصة في المدى المتوسط.

وبحسب هؤلاء، فإن تزايد الضغوط النفسية، ولا سيما بين جنود الاحتياط، يؤدي إلى تراجع الروح المعنوية، وتضاؤل القدرة على الحفاظ على مستوى الجاهزية القتالية المطلوب في جبهات معقدة مثل غزة ولبنان.

وفي حال استمرت هذه الظاهرة دون احتواء حقيقي، فقد تجد الحكومة الإسرائيلية نفسها مضطرة إلى إعادة النظر في خياراتها العسكرية الكبرى، خصوصًا إذا ارتبط الأمر بانهيار جزئي في القدرة على الحشد أو تأمين الجبهة الداخلية نفسيًا.

تمرد غير معلن

ووفقًا للمحللين، بدأت تلوح في الأفق بوادر “تمرد صامت” داخل الجيش، تتمثل في تزايد الامتناع غير المعلن عن تنفيذ الأوامر، وارتفاع طلبات الإعفاء لأسباب نفسية.

ويشيرون إلى أن تقارير منظمات إسرائيلية مثل “يش دين” و”كسر الصمت” وثقت مؤخرًا حالات لانسحاب جنود من مواقع القتال، أو رفضهم العودة إلى الخدمة، وهي تطورات تُنذر باهتزازات خطيرة في تماسك الوحدات القتالية.

ويرى الخبراء أن هذه الظواهر، وإن لم تصل بعد إلى تمرد منظم، إلا أنها تعكس مناخًا داخليًا متوترًا، قد يتحول إلى أزمة حقيقية في حال تواصل التجاهل المؤسسي لها.

انقسام داخل القيادة وصمت رسمي يعمق الأزمة

يرى محللون أن تعامل القيادة العسكرية مع ظاهرة الانتحارات يعكس انقسامًا غير معلن داخل هيئة الأركان، بين تيار يدعو لتوسيع الدعم النفسي، وآخر يخشى على صورة الجيش ويفضل احتواء الأزمة بعيدًا عن الإعلام.

هذا التباين يُبرز التوتر بين الحفاظ على صورة “الجيش الذي لا يُقهر”، ومواجهة واقع يهدد العقيدة الأمنية الإسرائيلية.

ووفق الخبراء، فإن سياسة الصمت لم تعد فعالة، بل باتت عبئًا يضعف الثقة بين الجنود وقياداتهم ويقوض تماسك المؤسسة من الداخل.

وتشير تقارير إلى تحول لافت في التناول الإعلامي للأزمة، من زاوية أمنية إلى إنسانية وحقوقية، ما يزيد الضغط على الجيش لإنهاء سياسة “الصمت المؤسسي”.

وتطالب منظمات المجتمع المدني بإنهاء الوصمة المرتبطة بالاضطرابات النفسية، محذرةً من أن التكتم يدفع الجنود إلى الانهيار بصمت دون دعم فعلي.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى