تقارير

تقرير: من العبيد إلى رجال الدين.. ليبيريا قصة الهيمنة الأميركية الطويلة

 

داى نيوز – قسم الشؤون الدولية

في مشهد بدا ساذجًا للبعض لكنه عميق الدلالة، قاطع الرئيس الأميركي دونالد ترامب نظيره الليبيري خلال لقاء مع رؤساء أفارقة في البيت الأبيض ليسأله باندهاش: «إنجليزيتك رائعة.. أين تعلمتها؟». سؤال يفضح جهل ترامب بتاريخ حليفته الإفريقية ليبيريا، لكنه في الحقيقة أعاد فتح ملف واحد من أكثر المشاريع الاستعمارية الملتبسة في التاريخ: تأسيس دولة ليبيريا على يد الولايات المتحدة قبل نحو قرنين، لتكون امتدادًا لمصالحها الاقتصادية واللاهوتية، وحقلًا تجريبيًا لنموذجها الديني-السياسي.

من تجارة العبيد إلى «تصدير الحرية»

عبر قرنين من الزمان، كان الأوروبيون والأميركيون ينهبون البشر من قلب إفريقيا، لنقلهم عبيدًا إلى مزارع السكر والقطن في العالم الجديد. وعندما حظرت أميركا تجارة العبيد في القرن الـ19، قررت أن تتباهى بإنسانيتها: أعادت توطين قسم من العبيد المحرّرين في إفريقيا نفسها.

بتعليمات مباشرة من الرئيس الأميركي جيمس مونرو، أسست «جمعية الاستعمار الأميركية» دولة جديدة في قطعة أرض اشترتها على الساحل الغربي للقارة، أسمتها ليبيريا (Liberty) وعاصمتها مونروفيا (Monrovia). لكن الحرية هنا كانت حكرًا على العبيد العائدين المحملين بالفكر البروتستانتي الأميركي، ليبنوا مجتمعًا يسيطر عليه رجال الدين الإنجيليون، ويحكمونه بدستور ينص على أن الرئاسة محصورة برجال الكنيسة.

ليبيريا: نموذج مبكر للدولة الدينية «الوظيفية»

من 1847 حتى 1983، تناوب على رئاسة ليبيريا أساقفة ووعاظ إنجيليون من أحفاد العبيد المحررين. رؤساء كانوا أكثر ولاءً للمصالح الأميركية من ولائهم لشعوبهم، وسمحوا بامتيازات اقتصادية ضخمة للشركات الأميركية أبرزها شركة فايرستون التي احتكرت زراعة وتصدير المطاط، وامتصت ثروات البلاد لعقود.

الغريب أن هؤلاء القساوسة أسسوا أول نظام عبودي «معكوس» في إفريقيا، إذ عمدوا إلى استعباد السكان الأصليين الوثنيين بذريعة نشر «الإنجيل». هكذا تحولت ليبيريا إلى مسرح لتجربة فريدة: دولة دينية مسيحية يقودها رجال كنيسة، ترعى مصالح واشنطن، وتبرر استغلالها لثروات إفريقيا.

حين ثار الأفارقة.. أميركا صنعت البديل

في الثمانينات، أطاح ضابط من عرقية «الكران» الأفريقية الأصلية اسمه صمويل دو بحكم رجال الدين، وأنهى الهيمنة الإنجيلية. لكن هذا التحرر النسبي لم يدم طويلًا. ففي مفارقة مذهلة، دعمت واشنطن مجرمًا ليبيريًا يدعى تشارلز تايلور، كان قد هرب بطريقة غامضة من سجن أميركي شديد الحراسة (سُجن فيه بتهمة سرقة)، ليعود إلى إفريقيا مسلحًا، ويقود انقلابًا دمويًا ضد دو.

النتيجة؟ مقتل قرابة 200 ألف ليبيري في حرب أهلية مروعة خلال التسعينيات، بينما كانت شركات أميركية تحصل بالمقابل على مئات ملايين الدولارات من الألماس الليبيري شبه المجاني، الذي مُوّل به شراء أسلحة بسيطة كانت كافية لتدمير المجتمع.

الاستراتيجية الأميركية: الاستحواذ عبر «الدين والاقتصاد»

ما حدث في ليبيريا ليس حادثة منعزلة، بل نموذج مكرر للأدوات التي توظفها أميركا تاريخيًا لإدارة مناطق نفوذها:

دعم نظم دينية موالية أو صناعة «بيئة مسيحية وظيفية» لخدمة مصالحها.

الهيمنة على الموارد الطبيعية مقابل حماية النخب الفاسدة.

توظيف النزاعات العرقية والطائفية لضمان استمرار الحاجة إلى «الرعاية» الأميركية.

 

بل إن ليبيريا، بحكم نشأتها الأميركية، أصبحت أكبر محطة تنصت وتجسس للولايات المتحدة والعدو الإسرائيلي في غرب إفريقيا، ضمن هندسة استخباراتية تعزز النفوذ الغربي في القارة السمراء.

الدرس الاستراتيجي: التاريخ لا يُنسى

حين وقف ترامب يسأل عن سبب إتقان رئيس ليبيريا للإنجليزية، لم يكن يدرك ربما أنه يلتقي بلدًا يحمل بصمة أميركية في اسمه وعاصمته ولون علمه، بلدًا بُني حرفيًا فوق مأساة بشرية ضخمة، وصُمم ليكون خادمًا اقتصاديًا واستراتيجيًا لمشروعات واشنطن.

ولذلك، يبقى درس ليبيريا حاضرًا في أي مقاربة استراتيجية للعلاقات الأميركية الإفريقية: واشنطن قد تغيّر وجوه حلفائها وأدواتها، لكنها نادرًا ما تتخلى عن فلسفتها التاريخية القائمة على «الهيمنة بأقل تكلفة»، عبر خليط ذكي من الدين والاقتصاد والأمن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى