تقارير

بوتين يفرض واقعًا عسكريًا… والناتو يراجع حساباته

في لحظة تتقاطع فيها الحسابات العسكرية مع التحولات السياسية الدولية، يبدو الصراع في أوكرانيا وقد دخل مرحلة أكثر تعقيداً، حيث لم يعد يدور فقط حول خطوط تماس ميدانية، بل بات اختباراً مفتوحاً لإرادات متعارضة بين موسكو والغرب.

فبينما تراهن روسيا على فرض معادلة جديدة بالقوة، تتحرك دول حلف شمال الأطلسي لتعزيز دفاعاتها شرقاً، تحسباً لسيناريوهات تصعيد تتجاوز حدود أوكرانيا، في ظل مناخ دولي متغير، لا سيما مع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.

هذا المشهد المتداخل يعكس مأزقاً استراتيجياً مزدوجاً، ضغط روسي يسعى إلى تكريس مكاسب ميدانية كأمر واقع، مقابل قلق متصاعد من اتساع رقعة المواجهة، ما يجعل فرص التسوية السياسية أكثر تعقيداً وتأجيلاً.

في مؤتمره الصحفي السنوي المباشر المعروف باسم “نتائج العام”، بدا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حريصًا على ترسيخ صورة روسيا كطرف يملك زمام المبادرة في الحرب الأوكرانية، لا باعتبارها مجرد صراع عسكري ممتد، بل كأداة سياسية لفرض شروط تسوية يراها “حتمية”.

اقرأ أيضاً:قمة بروكسل تضع أوكرانيا والاتحاد الأوروبي على طاولة قرارات مصيرية

أربع ساعات ونصف من الأسئلة والإجابات لم تحمل مفاجآت بقدر ما عكست ثباتًا في الخطاب الروسي، يقوم على معادلة واضحة، التقدم الميداني أولًا، ثم التفاوض من موقع القوة.

حديث بوتين عن أن القوات الروسية “تتقدم على طول خط التماس بالكامل” يعكس ثقة تهدف بالأساس إلى مخاطبة الداخل الروسي، لكنه في الوقت ذاته يبعث برسالة للخارج مفادها أن موسكو لم تعد في موقع الدفاع أو الاستنزاف.

التأكيد على أن روسيا “استولت تمامًا على المبادرة الاستراتيجية” ليس توصيفًا عسكريًا فحسب، بل تبرير سياسي لرفض أي تنازلات مستقبلية، سواء في ملف الأراضي أو في مسألة انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي.

في هذا السياق، لا تبدو تصريحات بوتين عن الاستعداد للسلام تناقضًا، بل امتدادًا للمنطق ذاته، فـ”السلام” الذي تتحدث عنه موسكو مشروط بمعالجة ما تسميه “الأسباب الجذرية للنزاع”، وهي صيغة فضفاضة لكنها محددة في جوهرها حياد أوكرانيا، والاعتراف بالأراضي التي سيطرت عليها روسيا، وإنهاء أي دور للناتو في المعادلة الأمنية شرق أوروبا.

الكرة  وفق الخطاب الروسي  ليست في ملعب كييف وحدها، بل في ملعب الغرب الذي يُتهم بإطالة أمد الحرب دون أفق حقيقي للنصر.

الإشادة اللافتة بالرئيس الأميركي دونالد ترامب تكشف بُعدًا إضافيًا في الحسابات الروسية، فبوتين يراهن على شخصية ترى الصراع من زاوية “الكلفة والعائد”، وليس من زاوية المواجهة الأيديولوجية مع موسكو.

الإشارة إلى موافقة روسيا “عمليًا” على بعض مقترحات سابقة لترامب، مع التحفظ على أخرى، توحي بأن الكرملين منفتح على صفقة، لكن بشروطه الخاصة، وبما لا يمس ما يعتبره مكاسب ميدانية ثابتة.

غير أن اختبار هذه الثقة الروسية يظهر بوضوح في ملف كوبيانسك، حيث يتجسد التناقض بين الروايات العسكرية، ففي الوقت الذي يؤكد فيه القائد العام للقوات المسلحة الأوكرانية، أولكسندر سيرسكي، سيطرة كييف على نحو 90% من المدينة، تصر موسكو على أن الهجوم الأوكراني لم يحقق أهدافه.

هذا التضارب لا يمكن فصله عن الطبيعة الخاصة لكوبيانسك، بوصفها عقدة لوجستية ومركز سكك حديدية بالغ الأهمية في شمال شرق أوكرانيا، وأي سيطرة عليها  حتى الجزئية  تحمل دلالات تتجاوز مساحتها الجغرافية.

السؤال هنا هل يعكس ما جرى في كوبيانسك تحولًا عسكريًا فعليًا أم مجرد مكسب تكتيكي مؤقت؟ المعطيات المتاحة تشير إلى أن أوكرانيا تسعى، عبر عمليات “البحث والضرب” واستعادة أجزاء من المدينة، إلى كسر السردية الروسية عن التقدم المتواصل، وإثبات قدرتها على المبادرة، ولو بشكل محدود.

ظهور الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي عند مدخل المدينة، وربط “النجاحات الميدانية” بإمكانية تحقيق نتائج دبلوماسية، يؤكد أن المعركة هناك تُدار بعين سياسية بقدر ما هي عسكرية.

لكن في المقابل، فإن الاتجاه العام للحرب وفق اعترافات أوكرانية وغربية لا يزال يميل لصالح تقدم روسي تدريجي، وإن كان مكلفًا.

فتصريحات وزير الدفاع الروسي بأن موسكو سيطرت هذا العام على مساحة تزيد بمقدار الثلث عما استولت عليه في 2024، تعزز خطاب بوتين عن “الزمن الذي يعمل لصالح روسيا”، خاصة مع حديثه عن تراجع قدرة توليد الطاقة الأوكرانية بفعل الضربات الروسية.

في المحصلة، يعكس خطاب بوتين اليوم استراتيجية تقوم على الجمع بين الضغط العسكري والانفتاح المشروط على التسوية، في وقت تحاول فيه أوكرانيا عبر معارك مثل كوبيانسك إثبات أن الميدان لم يُحسم بعد.

وفي سياق متصل، أكد إيفان أوس، المحلل السياسي، في تصريحات خاصة لـ”داي نيوز”، أن روسيا تسعى من خلال خطابها الرسمي إلى تعزيز شعور بالثقة الداخلية والخارجية، لكنها تواجه قيودًا ميدانية تجعل بعض أهدافها على الأرض صعبة التحقيق بشكل كامل. وأضاف أوس أن “المعارك مثل كوبيانسك تمثل اختبارًا حقيقيًا لموازين القوى، إذ تكشف أن التفوق العسكري لا يترجم بالضرورة إلى مكاسب سياسية فورية، وأن أي تسوية أو اتفاق مستقبلي سيعتمد بشكل كبير على قدرة الطرفين على تحويل الإنجازات الميدانية إلى أوراق تفاوضية قابلة للتطبيق”.

وأشار أوس إلى أن استمرار هذه المعارك يعكس الطبيعة الديناميكية للصراع، حيث يبقى التقدم أو التراجع محدودًا ومؤقتًا، ما يجعل احتمالات الحل السياسي رهينة بالتحولات الميدانية وتوازن القوى بين موسكو وكييف، إضافة إلى الضغوط الدولية، بما فيها مبادرات الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي.

من جانبه يرى الدكتور راشد صلاح، المحلل السياسي، في تصريحات خاصة لـ”داي نيوز”، أن “الصراع في أوكرانيا لا يزال مفتوحًا على احتمالات متعددة، حيث تسعى روسيا لفرض واقع ميداني، بينما تبقى كييف قادرة على المناورة والرد المحدود”.

وأضاف أن “الأحداث في مناطق مثل كوبيانسك تؤكد أن التفوق العسكري لا يضمن بالضرورة تحقيق مكاسب سياسية فورية، وأن أي تسوية مستقبلية ستعتمد بالدرجة الأولى على التوازن بين الإنجازات الميدانية والضغوط السياسية الدولية، فضلاً عن الدور الذي يمكن أن تلعبه القوى الإقليمية والدولية في إدارة الصراع”.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى