
تعيش القارة الأوروبية واحدة من أخطر أزماتها الديموغرافية في العقود الأخيرة، مع استمرار تراجع معدلات الخصوبة والمواليد إلى مستويات تاريخية غير مسبوقة، رغم المليارات التي أنفقتها الحكومات على برامج الدعم والحوافز لتشجيع الإنجاب ودعم الأسر.
ووفق بيانات صادرة عن مكاتب الإحصاء الوطنية وتقارير أوروبية حديثة، سجلت معظم دول الاتحاد الأوروبي معدلات خصوبة أقل بكثير من مستوى الإحلال السكاني البالغ 2.1 طفل لكل امرأة، حيث تراوحت المعدلات في عدد من الدول بين 1.2 و1.5 فقط، ما ينذر بتقلص سكاني متسارع وشيخوخة غير مسبوقة للمجتمعات.
وعلى مدار السنوات الماضية، لجأت حكومات أوروبية عديدة إلى حوافز مالية مباشرة، شملت إعانات شهرية للأطفال، وإجازات أمومة وأبوة مدفوعة الأجر، ودعم الحضانات، وتسهيلات ضريبية، إلى جانب برامج إسكان موجهة للأسر الشابة. إلا أن هذه الإجراءات لم تنجح حتى الآن في تغيير المسار العام للانخفاض السكاني.
ويرى خبراء ديموغرافيا أن المشكلة تتجاوز البعد المالي، وترتبط بعوامل أعمق، أبرزها تأخر سن الزواج والإنجاب، وعدم الاستقرار الوظيفي، وارتفاع تكاليف المعيشة، وأزمة السكن، إضافة إلى تغير أولويات الشباب، وتنامي القلق بشأن المستقبل الاقتصادي والمناخي. كما أسهمت جائحة كورونا وما تبعها من أزمات اقتصادية في تعميق التردد لدى الكثير من الأزواج في اتخاذ قرار الإنجاب.
وتنعكس هذه الأزمة بشكل مباشر على سوق العمل وأنظمة التقاعد، إذ تواجه الدول الأوروبية خطر تقلص القوى العاملة مقابل زيادة أعداد كبار السن، ما يضع ضغوطاً متزايدة على الميزانيات العامة وأنظمة الضمان الاجتماعي. وفي هذا السياق، لجأت بعض الدول إلى توسيع سياسات الهجرة لسد الفجوة السكانية، إلا أن هذا الحل يظل محل جدل سياسي ومجتمعي واسع.
وتحذر تقارير أوروبية من أن استمرار هذا الاتجاه دون حلول شاملة قد يؤدي إلى تغيرات جذرية في التركيبة السكانية والاقتصادية للقارة خلال العقود المقبلة، مؤكدة أن مواجهة الأزمة تتطلب سياسات طويلة الأمد لا تقتصر على الدعم المالي، بل تشمل تحسين جودة الحياة، وتحقيق التوازن بين العمل والأسرة، وتوفير بيئة أكثر استقراراً للشباب.
وبينما تتسابق الحكومات لاحتواء الأزمة، يبقى السؤال مطروحاً: هل تكفي الحوافز وحدها لإعادة الأطفال إلى أوروبا، أم أن القارة تحتاج إلى إعادة صياغة شاملة لنموذجها الاجتماعي والاقتصادي؟



